صالح الرزوق
في قراءة متوازنة ولماحة وتحت عنوان “أمثولة العائد ويوتوبيا البلاد” * يناقش الدكتور حمزة عليوي رواية “المخاض” لغائب طعمة فرمان، ويعتبر أنها عمل رائد، أو بالتحديد عمل مبكر تناول موضوعة العودة من المنفى.
تبدو الدراسة وكأنها امتداد لقراءة سبقتها للسوري محمد كامل الخطيب، وكانت بعنوان: “انكسار الأحلام” وإذا لم يحصر الخطيب قراءته بكاتب واحد ولا بفكرة عودة المناضلين المبعدين قسرا، لا يخرج عليوي على هاتين النقطتين. ولكنه يعمق قراءته بإحالات إلى رواية فرمان الأهم وهي “ظلال على النافذة”. ويفترض أن العائد، مثل المغادر، تعرض لثلاث عتبات بالإكراه.
الأولى هي الاضطهاد. وهو ظرف لا ينجو منه أي فار من الجحيم، لا أثناء التخفي من السلطات ولا في حياة الغربة.
الثانية سقوط فكرة اليوتوبيا. وينسحب ذلك على اكتشافه لزيف شعارات الثورة، التي تحولت سريعا إلى مجرد انقلاب عسكري، الغاية منه الاستيلاء على السلطة، دون أي تقديم خدمات بديلة. بمعنى أنه انقلاب لكن دون انقلابيين.
ويفتح عليوي هنا قوسا ليستطرد قليلا حول مشاكلات وجودية بعيدة عن موضوعه، مثل علاقة الحرية بالديمقراطية. وعلاقة التابع بما بعد الاستعمار، ولكنه لا ينسى أن يلفت انتباهنا لاندحار أجندا العودة أيضا. وبهذا السياق يضع خطا أحمر تحت مونولوغات وأقوال منتقاة وردت على لسان أبطال “المخاض” بالإضافة للشخصيات الثانوية. ويتفق الجميع على استحالة موضوعة العودة على وجه الإطلاق، باعتبار أن ما سلف تحول إلى بقايا ولقى. والتعبير الأول علمي، وله علاقة بالدراسات الإحصائية التي وضع أسسها فيشر في أول جدول رسمي للاحتمالات ونظام التوزيع. وحملت لاحقا اسم ”المتبقي residual”. ونعبر به عن مصادر التباين بعد حذف الفروقات المعروفة.
أما التعبير الثاني فيدخل في حفريات فوكو عن ماضي المعرفة وتطور العلوم. وله خاصة بنيوية دون سمة متبدلة.
وأستطيع أن أفهم أسباب اهتمام الدكتور عليوي بالتعبيرين. فهما يضعان رواية “المخاض” ضمن تسلسل وعي الفن الروائي، واندحار كل القيم والمعايير ابتداء من المعنى الأساسي للأصالة وحتى المعنى الثانوي للتحديث – وتدل المصطلحات الأخيرة كما يرى خلدون الشمعة، في رسالته المقدمة لكلية الاستشراق في لندن، على اتجاه أو تطبيقات فكرة الحداثة المجردة. ولذلك يمكننا النظر لغائب فرمان على أنه روائي مجدد لكن بشروط غير غربية. بتعبير آخر أدواته غربية غير أن تفكيره نفي للأطروحة.
وعليه يرى عليوي أن “المخاض” رواية عن يوتوبيا. وإن كنت أعتقد أن تفجع وتأسي أبطالها يؤكد أننا بصدد دايستوبيا. وكل مؤشرات “المخاض” – من اندحار المعالم المحببة للكاتب، وحتى غمر بغداد تحت ركام من الغبار الشمسي، يذكرنا بأعمال حديثة صدرت مؤخرا عن يوتوبيات غريبة أو مدن خيالية لا وجود لها على الخريطة. وأذكر على سبيل المثال “القوة” لنعومي ألديرمان، و”الساعات الحمر” لليني زوماس. بالإضافة لرواية “الطريق” لكورماك مكارثي والتي أصبحت أشهر من نار على علم. وكلها أعمال ترسم مستقبلا عقيما للنوع البشري، وتضعه أمام احتمال النكوص على سلم التطور.
وبرأيي تشتمل رواية “المخاض” برؤيتها الكئيبة على ثلاث لحظات.
البرهة الطللية. وأستعير هذا التعبير من الناقد المرحوم يوسف اليوسف. وهو إعادة إحياء للوقوف على الأطلال الدارسة. فبطل الرواية يعود من غربته إلى بلاده، ويبحث بسيارة وبصحبة دليل محلي عن أماكن ذكرياته الجميلة والتي تحولت إلى أنقاض. ولعلها أجمل نقطة في رواية فرمان لأنها تضيف لها قيمة أسطورية، وترفع التصوير إلى مستوى الترميز. وهو نظام لغوي أوديبي مقنن يدل على تفاقم سلطة الأب وزيادة المنع ودرجة العنف المعطل والإكراه. ويتخلل هذا المحور عدة إشارات ضمنية وغير ظاهرة لعقوبة التنزيل ومقارنة الحياة الشقية في الواقع مع الحياة المفترضة في الجنة – ما أسميه .virtual reality
اللحظة الثانية هي يوتوبيا المنفى وقسوة الاغتراب حين تكون خارج مكانك – المكان بالمعنى الاجتماعي والنفسي وليس بدلالة الأرض. فهي قيمة مكتسبة. وربما لم يكتب عنها غير الفلسطينيين واليهود الذين أعادوا القيمة للأسطورة في التاريخ. ولا يفوت على ذكاء الدكتور عليوي هذه المسألة ويقارنها بالشتات الفلسطيني. وتمنيت لو أنه قدم أمثلة من الأدب العبري المعاصر – مثل “وجه جديد في المرآة” ليائيل دايان. و”في الأمس” فقط ليوسف عجنون. وكلا الاثنين يتناولان بتبتل وإيمان صوفي موضوع جدار الإسمنت الذي عزل الواقع عن الأمنيات. حتى أن أرض إسرائيل بدأت تبدو وكأنها أمنية أكثر منها فكرة سياسية أو لاهوت سياسي.
اللحظة الثالثة والأخيرة هي الوقت الحالي أو مسرح أحداث الرواية. وهي لحظة دايستوبية بامتياز.
ولكن لم أجد أي سبب لقسر كلمة أمثولة على أليغوريا. وكما ورد في قاموس OED الأليغوري عبارة عن استعارة متحولة extended. كما أن التمثيلات تكون مجازية وغير مجازية. ويمكن للتصورات أن تتجرد بشكل أمثال ومقولات. وأصلا أمثولات “كليلة ودمنة” هي مواعظ وحكم مقنعة – بمعنى أنها دروس ومواعظ.
ولكن لا يوجد أي تمثيلات في “المخاض” ولا في “ظلال على النافذة” ومثلها روايته الطبية “المرتجى والمؤمل” وهي عن رحلة علاج ابنته في روسيا. وتوازيها رواية متأخرة لحنا مينة بعنوان “حمامة زرقاء في السحب”. وكذلك موضوعها رحلة علاج لكن في الغرب الغربي، وبالتحديد لندن عاصمة الإمبراطورية الشريرة التي حكمت نصف العالم وثلاثة أرباع الشرق الأوسط بالقوة. عدا أنها عالجت أزماتها الرأسمالية الداخلية، وتفشي أمراض السوق، بواسطة وعد بلفور، كما تنقل ريبيكا روث غولد عن ليون إبراهام، اليهودي المعادي للصهيونية.
وفيما أرى وضع غائب طعمة فرمان ثقله بنقطتين هامتين.
الأولى إعادة الاعتبار للرواية البيئية.
والثانية التعالي على المحلي بتأصيله وتمكينه.
ولكنه لم يتابع علاقة الإنسان المفرد بالإنسان الجماعي. أو بتعبير بوريس سوتشكوف لم يكتب عن شبكة علاقات بشرية، ولكنه وضع جدارا بين الإنسان والإنسان، وأعاد تصوير هموم كل نمط على حدة. وغني عن الذكر أنه تبوأ مركز الريادة في رواية “الأصوات”، وسبق بها نجيب محفوظ. وأضيف أنه بذه في هذا المجال. فقد استغل محفوظ هذا الأسلوب، وحول كل صوت لنمط، وكان إيقاع الأصوات مكرورا، مثل دولاب يدور حول محوره (ولكن أستثني روايته الفرعونية “العائش في الحقيقة”. وهي نوفيلا متأخرة تدل على شغفه بالماضي الذهبي والأسطوري لحضارة مصر القديمة التي بدأ مشواره معها بثلاثية تاريخية معروفة، وبترجمة كتاب عنها). بينما حرص فرمان على تنمية الصوت الواحد، ليضيف مساحة مجهولة إلى صوت آخر. وبذلك لم يتحول إلى فكرة وإنما إلى حياة إنتاجية. وبلغة يغلب عليها محاكاة ما هو طبيعي، دون أي إضافة أو تحوير – بمعنى أنه تركها دون رتوش، وبلا مكياجات مستعارة من عصاب الحداثة وما بعدها. وأعتقد أن الدكتور عليوي معي في هذه النتيجة. حتى أنه قال بالحرف الواحد عن فرمان إنه، بشكل عام، أعاد لبغداد في أعماله سياقها التاريخي، واهتم بالأمكنة، التي كانت ولا تزال علامة فارقة، تعرف بها بغداد، عاصمة الرشيد. ص 319.