تفاعل الصورة الشعرية الانسانية في ديوان « تجليات» لـ كاظم ناصر السعدي

محمود خيون

عرفت الشاعر المثابر كاظم ناصر السعدي منذ أكثر من اربعين سنة….قرأت له من الشعر بأنواعه القصيدة العمودية المقفاة والنثر أو شعر الحداثة كما يسمونه والحر ذات الرنة الموسيقية والإيقاع والتفعيلة المنفردة التي لا تخضع إلى قواعد معروفة ومحددة في عدد التفعيلات …والقصيدة عند الشاعر كاظم ناصر السعدي قضية بحد ذاتها يتحدث فيها بل ينشرها على الملأ بكل ما تحمله من ألم المعاني وسجايا المفردات، وهو من الشعراء القلائل الذين استطاعوا وبمقدرة فائقة أن يطوعوا اللغة لصالح المعنى الذي يريد ويصوغ قصائده على معانيه وموسيقاه بكل ما تحتوي من أبعاد إنسانية أو اجتماعية أو سياسية أو ذاتية تتحدث عن معاناة الناس خلال مسيرتهم في الحياة، أو أنها تخضع في بعض الاحايين إلى تصاريح واعترافات بما يجوس داخله من ألم وحسرة ومعاناة لا يعرف هو نفسه أبعادها الحقيقية الآنية أو حتى عندما تتشابك لديه الرؤى والأحداث فتعصر أعماقه الرغبة إلى البكاء على الرغم من القول السائد بأن الرجال لا يبكون…!
كاظم ناصر السعدي عرفته مناضلا شرسا في ساحة القصيدة والإبداع، يصول ويجول بها وباشكالها نثرا وقريضا وحرا..لا يخضع لأي قاعدة وبيانات غير المعنى الكبير الذي يريد أن يوصله للقارئ الاعتيادي قبل القارئ الدارس والباحث الأكاديمي.
ويعد السعدي من الشعراء الذين سايروا مركب الحداثة وتعبدوا في كهوف قصيدة الوزن والقافية أو ما تسمى( التفعيلة) والتي كانت في الماضي حكرا على شعراء كبار منهم نازك الملائكة والسياب وعبد الوهاب البياتي ومحمد الماغوط وانيس الحاج وامل دنقل ومحمود درويش والياس لحود وغيرهم….ويذكرني هذا المحفل بقول للزميل الناقد والباحث الكبير الدكتور فالح الكيلاني حين يصف قضية شعر الحداثة…بان الشعر الحديث يقصد به كل شعر عربي كتب بعد النهضة العربية وهو يختلف عن الشعر القديم في اساليبه وفي مضامينه، وفي بنيته الفنية، والموسيقية، وفي أغراضه وموضوعاته وفي كثير من انواعه المستجدة والمستحدثة ويشمل جميع قصائد الشعر والدواوين التي قيلت في العصر الحديث فهي شعر حديث بدءا من اول قصيدة كتبت قبيل الحملة الفرنسية على مصر بأقلام الشعراء الرواد الاوائل وهم رواد النهضة العربية وعلى رأسهم الشاعر محمود سامي البارودي وقبله ناصيف اليازحي وابنه ابراهيم اليازجي.
ويضيف الدكتور الباحث الكبير الكيلاني أن قصيدة النثر وهي آخر ما توصل اليه الشعراء المعاصرين الذين يكتبون شعر النثر أو ما يسمى( قصيدة النثر) التي لا مثيل لها في العصور العربية قبلها ، موضحا بأن كثيرا ما كتبه الشعراء في هذا العصر والذي قبله كان على غير منهاج الشعر التقليدي أو الكلاسيكي واقصد به الشعر الحر أو شعر التفعيلة وقد ظهر في الأدب العربي في النصف الأول من القرن العشرين على يد امين الريحاني وصلاح عبد الصبور وبدر شاكر السياب وشعراء المهجر وعدد من شعراء العرب…. )
وهذا الأمر ينطبق إلى حد ما مع شعر كاظم ناصر السعدي الذي احتواه ديوانه الأخير( تجليات ) ..فانت تشعر ومنذ القصيدة الأولى في الديوان بأنه محطم الإرادة ومسلوب الأمل، يناجي أحلامه الفائتة على جمر من الذكرى والالم…فهو يعترف بأنه لم يذق طعم نكهة الصباح ونسائمه العذبة وان مراياه ظلت تتكسر على يد مطرقة الألم الكبير.
(لم ارتشف نكهة صباح مشرق
جسدي مزرعة طعنات اليأس
مرايا عمري
تتكسر بمطرقة الألم
لا هم يغادر باب روحي
ولا سعادة تدخل من نافذة قلبي.)
هكذا أذن هو يدلي بهذا الاعتراف الواضح والصريح عن حالته الغارقة في بحر من الانكسارات الأئمة التي تعبأ راسه بقلق كبير… كذلك تكرر هذه الصورة الموحشة بكل ملامحها المالية في قصيدة ( ألم ) التي يناجي فيها سنوات عمره بعد أن وقفت بكل شموخ منكسر على اعتاب السبعين…
( في السبعين العجاف
قلبي حاسر إلا من شجنه المر
نافذة الانتظار مقطوعة الأنفاس
أطل منها على الصباح
عله يغسل وجهي من تراب الاه..)
لو تمعنا قليلا بمشاهد تلك القصائد لاسترجعنا صور موحشة أخرى كان الشاعر الراحل سعدي يوسف يلهمنا نشيجها الخفي في الكثير من قصائده التي ظلت قابعة في زوايا منزله المعتم عند مدينة الضباب والأسى..
لقد استطاع الشاعر كاظم ناصر السعدي أن ينقلنا إلى عوالم أخرى من الشعر الايقاعي وذات البحور المتنوعة فهو ينتقل بنا وبخطف البرق من المتدارك ومن ثم الرجز والبسيط والنمط المدور، وهكذا يظل يدور في فلك الأوزان لأنه شاعر متمكن من أدواته فهو يكتب الشعر بأنواعه كما أسلفنا في بداية هذه الدراسة والمقارنة….ولعل احاسيسه لم تخطئ هذه المرة عندما يشعر بأن ليله ليس له نهاية واضحة ومحددة يجليها فجر ساطع بالنور فهو كلما يحتفل بميلاد صباح جديد يخطف جنح الظلام واشرعة الليل المدماة بهجته وفرحه بولادة يوم جديد شمسه لا تعرف الغيوم ولا يشعر فيه بالهم والنكد كما يتمنى…وتتجلى هذه الصورة في قصيدة( انكسار) كما في قصائد الديوان الأخرى…
( كلما احتفل بميلاد الصباح
يخطف بهجته ليل اليأس
كيف اروض العناء
وانا مركون في غيابة المحنة؟!
هل أخبئ قلقي خلف جدار الوهم ؟!
سنواتي تحتضر تحت ركام الخذلان)
تبقى القصيدة عند الشاعر كاظم ناصر السعدي قضية بحد ذاتها تتفرع مثل شجرة وحيدة تهاجمها رياح الخريف العتية فتظل تلوح بأغصانها للقادمين الى مدن أكثر رفاهية وحكمة في العيش ما بعد الغربة مع النفس ومع الذات المعذبة المشغولة بقضايا كبيرة تتسع رؤاها وأبعادها عند ذاكرة الشاعر فتبرز خباياها من اعماق روحه التي تريد الخلاص من هذا الواقع الغريب المشوه الذي تنهش مخالبه لوحات الزمن الجميل التي تحتفظ بها ذاكرته المتعبة وفي كل قصائده وفي كل ما يحويه فيضه من ملاحم شعرية ستظل هي الشاهد على معاناته الحقيقية التي طواها الزمن خلف سنين العمر العجاف التي تجاوزت السبعين….فمرايا الألم وتباريح طائر الفرات وسيرة لغد مضى كان الشاعر السعدي قد وثق بها مرحلة من مراحل جهده المنكسر في عالم متناقض وغريب الأطوار.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة