وثائق تكشف لأول مرة منذ أربعة عقود.. ما السبب؟
احمد الخطيب
في أيلول / سبتمبر الماضي يكون قد مضى على اندلاع حرب الخليج الأولى أربعة عقود تحولت هذه الحرب العبثة الى جزء من تاريخ وذاكرة ملايين العراقيين والإيرانيين. لكن الفرق أن هذه الذاكرة على الجانب العراقي تضاءلت واضمحلت ولم يعد فيها سوى ذكريات ارامل وثكالى واجيال الحروب التي لم تلتقط أنفاسها بعد جراء الحرب التي خاضها العراق بعد ذلك.
حتى بالنسبة لرأس النظام السابق، لم تكن الحرب سوى مكانة دعاية لشعارات اكتشف هو نفسه زيفها وكذبها، وأنها مجرد «مؤامرة» زُجّ فيها العراق لأهداف وضعها الامريكان وموّلتها دول الخليج في خضمّ أجواء الحرب الباردة وصراع القطبين آنذاك.
لقد تراجع اهتمام نظام صدام بالحرب العراقية – الإيرانية على مستوى التدوين والتوثيق بتراجع حماسته للحرب ذاتها، التي خطّط ان تكون نزهة ستنتهي بعد بضعة أسابيع بعد ان يجتاح الأراضي الإيرانية ويدخل طهران.
ذاكرة الحرب .. ذاكرة الهزيمة
لم يتعد اهتمام النظام البعثي بحربه التي خاضها بقرار شخصي، عندما قرر تمزيق اتفاقية الجزائر على شاشات التلفاز، إلا بمقدار انتاج اعمال فنية وادبية تندرج ضمن أدب التعبئة، والاسابيع التعبوية التي كان يقيمها لتسويق شرعيته وشرعية قراره بخوض الحرب.
وحتى هذا المستوى اخذ بالتراجع مع اشتداد الحرب استمرارها لسنوات أخرى بعد ان كان مخططا لها ان تكون لبضعة أسابيع. انكفأ نظام صدام عن التعبئة الحربية الى معالجة التداعيات الاقتصادية والاجتماعية التي خلفها قرار الحرب واستمرارها لهذه الفترة الطويلة.
وما ان حاول المواطن العراقي التقاط أنفاسه، بعد اعلان الطرفين القبول بقرار 598 لإيقاف إطلاق النار، حتى وجد نفسه في حرب جديدة بعد اقل من عامين على تنفسه الصعداء من حرب الثماني سنوات.
أما على الجانب الإيراني، فإن الحرب تحولت الى جزء من ذاكرة اجتماعية وثقافية تأخذ ابعاداً تأسيسية بعد الثورة الإسلامية التي أطاحت بنظام الشاه في 1978.
فبالإضافة الى مراكز الأبحاث المتخصصة بتاريخ الحرب وشخصياتها وأبرز احداثها، وبالإضافة الى الاهتمام بتدوين الذاكرة الشفاهية لكل تلك الحقبة العصيبة التي كانت تعيش فيها ايران الثورة مخاضات عسيرة على المستوى الداخلية وعلى المستوى الخارجي. إضافة الى كل ذلك، فإن الجدل بشأن الحرب واسبابها، وملابساتها، وظروفها، وانجازاتها، وخسائرها، كانت وما زالت جزءا من النقاش النخبوي وحتى الشعبوي بشكل متواصل، تخصص له الدوريات والصحف والبرامج التلفزيونية والوثائقيات حيزاً كبيرا وواسعا وبشكل يومي.
قد يعود ذلك، في جزء منه، الى استقرار النظام الإيراني بعكسه في النظام السياسي في العراق الذي انتهت سلسلة حروبه باحتلال قوّض ما تبقى من بنية الدولة الهشة اساساً والمتآكلة.
لكن ذلك لا يستقيم بشكل كامل خصوصا ونحن بصدّد التقديم لهذا الكتاب / الوثيقة الذي نكتشف انه نشر باللغة الفارسية أواخر عام 1990 اساساً، أي بعد اشهر من انتهاء المراسلات بين رئيسي البلدين.
تابو ثقافي عراقي
لم يهتم النظام العراقي بنشر وثائق خاصة تؤيّد سرديته لمجريات الحرب مع الجارة ايران، ولم يسعى حتى الى ابراز «بطولات» قادته العسكريين عبر تشجيعهم على نشر مذكراتهم مثلا، على الرغم من اعدام العشرات منهم اثناء حرب الخليج الأولى او بعدها.
بنظرة عامة، يمكن اعتبار حقبة الحرب العراقية / الإيرانية «تابو ثقافي عراقي» تحاول النخبة العراقية المرور عليها مرور الكرام، من دون الاحتفاء الوقوف عندها وعند تداعياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
فما عدا انخراط العشرات من الادباء العراقيين في كتابة ما سمّي بـ»أدب المعركة»، الذي رعته وزارة الثقافة والاعلام آنذاك، لم نشهد اهتماماً جاداً بذلك حتى بعد سقوط النظام في2003 قياساً باهتمام النخب بنقد وتشريح النظام السياسي ما بعد صدام.
ان الجهد الذي قام به الكاتب والصحفي العراقي مازن الزيدي بترجمة واعداد كتاب «مراسلات صدام / رفسنجاني»، يكتسب أهميته من القيمة التي تحملها هذه الوثيقة التاريخية بالنسبة لبلدين متجاورين عاشا حرباً عبثية، ثم ربطتهما علاقة وثيقة بعد 2003.
كما يكتسب العمل الذي قدمه الزيدي أهميته من كونه يسدّ فراغاً معرفياً في الذاكرة العراقية والعربية، لجهة ندرة المصادر التي تسلط الأضواء على هذه الحقبة المهمة من تاريخ المنطقة.
فعلى الرغم من أهمية ترجمة كتاب «الرسائل المتبادلة بين صدام ورفسنجاني» الى العربية بهذا الشكل المتكامل ولأول مرة، فإن الزيدي قدّم الكتاب ليكون مرجعاً ومصدراً اكاديمياً للمتخصصين والباحثين في مجال العلاقات العراقية / الإيرانية، ثم المهتمين بمعرفة كواليس تلك الحرب التي ما زال الملايين من العراقيين والعرب يجهل الكثير من اسرارها.
فمن غير الصحيح اعتبار العمل مجرد ترجمة فحسب، بقدر كونه إعادة احياء لوثيقة تاريخية تم تجميعها وترميمها وعرضها بلغة رشيقة وسلسلة في ذات الوقت. ولا نغالي اذا ما اعتبرناه عملاً يرتقي الى التحقيق والتنقيب والحفر الانثربولوجي، الذي يستحق الإشادة والتنويه والتكريم حتى من قبل الأوساط الثقافية والرسمية، نظراً لخدمته للمكتبة والثقافة العراقية والعربية.
وكما يذكر الزيدي، في مقدمة الكتاب، فإن العمل هو نتاج لترجمة أجزاء من المدونات المكتوبة والمنشورة باللغة الفارسية، التي تطرقت لموضوع تبادل الرسائل بين صدام ورفسنجاني وما سبقها وما تلاها من مساعي لطيّ صفحة الحرب. كما إن الترجمة الراهنة والملاحق والوثائق التي تضمنتها تمثل أول ترجمة عربية متكاملة بعد مرور أربعة عقود على نشرها لأول مرة بلغتها الأمّ.
بواسطة هذه الترجمة تعرفنا على «دبلوماسية الرسائل» التي سجّل فيها المفاوض الإيراني حقوقه، وثبّتها في المحافل الدولية رغم خوضه حرباً شرسة استمرت لثماني سنوات. فبعد ان قام صدام حسين بتمزيق اتفاقية الجزائر 1975، التي وقعها عندما كان نائبا لرئيس الجمهورية مع شاه ايران محمدرضا بهلوي، عشية شنّه الحرب على ايران عاد ليعترف بها.
فطيلة الرسائل التي أرسلها صدام عبر مفاوضيه، يكتشف القارئ العراقي اولاً والعربي ثانياً حجم ضعف وهشاشة الطاقم الدبلوماسي الذي كان يحيط صدام وعجزه عن منع رئيسه الى تنازلات «مخزية» و «مفضوحة».
ففيما كان صدّام يعدّ العدّة لارتكاب حماقة عسكرية جديدة مع دولة جارة، حاول استخدام لغة الوعيد والوعيد مع القيادة الإيرانية لتأمين جبهته الشرقية، لكن ذلك افتضح سريعاً من خلال إلحاحه وابداء استعداده لتقديم التنازلات.
لكن سلسلة المفارقات التاريخية التي يكشفها الكتاب لم ينتهي عند هذا الحدّ، فقد كشفت اليوميات التي كتبها الرئيس الإيراني الراحل اكبر هاشمي رفسنجاني كيف أحرجهم نظام صدام بإرسال المئات من طائراته المدنية والعسكرية في ذروة التوتر التحالف الدولي الذي تشكل وقتذاك لتحرير الكويت.
يسرد رفسنجاني، في جزء من يومياته، كيف قرّع برزان التكريتي، الأخ غير الشقيق لصدام، طارق عزيز خلال زيارة قاما بها الى طهران. كما يذكر رفسنجاني كيف تعامل مع سعدون حمادي الذي دخل الحدود الإيرانية من دون سابق انذار.
الكتاب في جوهرة شهادة أخرى على حماقات صدام بحق العراق والمنطقة، كما انه يمثل شهادة أخرى تؤكد حقيقة في عالم السياسية: ان الترسانة غير قادرة لوحدها ان تحسم حرباً او جلب نصراً البتة.