شكيب كاظم
كثر الحديث عن انحسار وهج الثقافة عامة، ولا سيما الكتاب والقراءة، فلقد مر على الناس حين من الدهر، كان يفاخر بما يقرأ، وكثيرا ما كنا نجري المطاردات الشعرية، التي لم يسمع بها أبناء العقود اللاحقة، ولم يعرفوا عنها شيئاً، وكثيرا ما كنا نناقش ما قرأنا، لابل أسسنا مكتبة صغيرة من ما كنا نوفره من مصروفنا اليومي، الذي نحصل عليه من آبائنا، يوم كنا طلاباً صغارا في الدراسة المتوسطة، وما زلت أحتفظ بكتاب من كتب تلك المكتبة التي انفرط عقدها سريعا، إنها مسرحية ( شهرزاد) للأديب الإيرلندي الساخر ( جورج برنارد شو).
لقد طرأ تغير سريع على الحياة في عالمنا العربي، ولا سيما مع ظهور الفضائيات، ومن قبلها البث التلفزيوني الذي سرق الناس من الكتاب، والذي يقدم ثقافة صورية سريعة، لا تلبث أن تزول من ذهن المشاهد الكسول وبصره، فتراجع عدد المطبوع بشكل ذريع ومؤسف، فإذا كنا نطبع ثلاثة آلاف نسخة من كل مطبوع، فما أرانا نطبع اليوم أكثر من خمس مئة نسخة، هذا إذا تفضل المعنيون بتسويقها، وإلا تركت في المخازن تحت رحمة ظروف الطقس، لذا لجأ الكثير من الكتاب إلى ولوج المناطق المحرمة، أو إثارة زوابع بشأن إصداراتهم، تجلب لهم شهرة وبهجة، وإلا هل يقبل أن يكتب روائي سوري رواية في شأن سياسي عراقي، فتنقلب الدنيا بشأنها بعد نحو عقدين من الزمان؟!
الشيىء الملفت للنظر، أن الكاتبات العربيات كن أكثر جرأة وانفلاتاً من الكتاب، في الغوص في هذه المثيرات لوجع الرأس!:رجاء الصانع، وعالية ممدوح، وسمر المقرن، ورجاء بن سلامة، وفاطمة المرنيسي، وهدى النعيمي، التي تقف إزاءها (سفينة حنان إلى القمر) مجموعة (ليلى البعلبكي) القصصية الصادرة سنة ١٩٦٢، التي قدمت بسببها إلى المحاكمة، حيية خفرة خجول! فضلاً عن مذكرات الشاعرة المصرية رشيدة رضا، وكذلك مذكرات الشاعرة فدوى طوقان، والعديد من أعمال الدكتورة نوال السعداوي، البحثية والإبداعية فضلا عن مذكراتها.
كانت الناس تقرأ قبل ارتفاع الأسعار عالمياً، الناتج عن الارتفاع غير المعقول لسعر برميل النفط الخام، كان سعره يوم بدأ بالصعود ربيع سنة ١٩٧٤، دولارين وسبعين سنتا، كانت الحياة رخية ورخيصة وهادئة، اتخمت الأرض بالبشر الذين يزدادون وفق متوالية هندسية، وفي كثير من البلدان، تلتهم الأفواه الجديدة، كل الناتج القومي للبلد، وتذهب جهود الملايين، وتعب سواعدها عبثاً، وضرب الأرض التلوث والتصحر، وجنون البقر والإيدز وجائحة كورونا وثقب الأوزون، الذي ما استطاعت الجهود البشرية أن ترفأه، وجاءت لنا ظواهر التسونامي، الناتجة عن ازدياد حرارة الكون، وقلع الغابات، ودفن الأهوار، وظل الإنسان يركض لتلبية مطالب حياته وحياة الأسرة، التي تزداد كل سنة، أو كل تسعة أشهر!
يوم كانت الدنيا بخير، كانت الثقافة بخير، كان القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانيةb.b.c، يقدم أكثر من برنامج ثقافي، كان الإذاعي الشهير حسن الكرمي يقدم برنامجه المحبب (قول على قول) وكان القسم يقدم لنا برنامج (لكل سؤال جواب) فضلاً عن ما كان يقدمه الشاعر المصري فاروق شوشة من لقاءات، مع قامات شعرية وفنية وعلمية باذخة في برنامجه (لقاء مع..) ولست ذاكرا برامج أُخَر لعل أشهرها (السياسة بين السائل والمجيب).
إذاعة لندن تحولت إلى إذاعة إخبارية، واستطلاع آراء الناس في قضايا آنية، حيث يصفعك خطل الرأي، وفجاجة القول، وعاميته ولاسيما لدى المصريين، وتظل تعيد وتكرر على مدى أربع وعشرين ساعة!
كانت (إذاعة مونت كارلو) تقدم برنامجها الثقافي (المجلة الثقافية) عصر كل يوم، ويعاد ضحى اليوم التالي، يعده الأديب المغربي عبد الإله الصالحي، إلى جانب شبكة من المراسلين؛ خليل صويلح من دمشق، وميشيل معايكي من بيروت، وخميس خياطي من تونس. اختفت المجلة الثقافية اليومية، أما المدونة التي تتناوب على تقديمها خمسة نسوة، فإحداهن تتحدث بعامية مصرية، واليمنية تقدم لنا بكائية صباحية، أما اللبنانية التي كنا نقرأ مجلتها (جسد)، فيتطاير مع كلامها البصاق، فهي تكثر من إيراد هذه المفردة، حتى أصبحنا نغلق المذياع خشية..؟!
إذاعة الكويت كانت تقدم برنامجا ثقافيا مفيدا، عند الواحدة والنصف ظهر كل يوم جمعة، على مدى نصف ساعة عنوانه (إسألوا الإذاعة) سجلت العديد من حلقاته، غير أنها ذهبت مع من ذهب، فضلاً عن أحاديث المساء الثقافية.
إذاعة جمهورية العراق من بغداد، كانت تقدم برنامجاً من أروقة الجامعة، على مدى ساعة ليلا، عنوانه (رسائل جامعية) تقدم في كل حلقة من حلقاته، رسالة جامعية في الماجستير أو الدكتوراه، نوقشت وأجيزت، كان يعده ويقدمه، صاحب خليل إبراهيم، الذي ماعتم أن نال الدكتوراه، فغادر العراق إلى اليمن!
في كل المحطات العربية، بعد تقديم النشرة الإخبارية، ثمة نشرة اقتصادية، تردفها نشرة رياضية، وما من نشرة ثقافية إلا قليلاً.
إننا إذا أردنا ازدهارا للكلمة المقروءة في مواجهة ثقافة الصورة، فيجب أن نبدأ من الطفل في المدرسة الابتدائية، أن نعلمه حب القراءة واقتناء المطبوع، وتأسيس مكتبات في المتوسطات والثانويات، وعند ذاك- وبكثير من الجهد التربوي- نستطيع أن نعيد لهواية القراءة مجدها وألقها.