«الاب« ايقونة هوبكنز المرعبة
خالد محمود
ما اقصى ان تفقد إحكام قبضتك على واقعك .. ان تتوه من مفردات حياتك ولا تشعر بشيء اخر .. تلك الصورة القاسية والمثيرة دراميا ، يدخلنا فيها فيلم «الاب « The Father للفرنسي فلوريان زيلر وبطله البارع انتونى هوبكنز التي يستحق عليها بحق جائزة الأوسكار لتميز أدائه فى شخصية صعبة هي مفتاح حياة بدون حياة ، لرجل يعيش مخاوف من الخرف او الزهايمر الذى ربما تطاردنا في احد الايام .
الفيلم الذى افتتح به مهرجان القاهرة السينمائي دورته ال42 ، يستند إلى عمل مسرحي لنفس المخرج يبدأ كدراما بسيطة قبل ان تسبح بعمقها ، أنتوني الذى يعانى من الخراف يبلغ من العمر 80 عامًا تقريبًا ، وقد جاءت ابنته آن ( أوليفيا كولمان ) لتعتني به ، وشجعته على عدم طرد شخص جلبته إلى شقته ليقوم برعايته ، مثلما فعل مع الآخرين، حيث لن تتمكن آن من القدوم كل يوم لأنها ستنتقل إلى باريس وتحتاج الى ضمان سلامته أثناء غيابها ، وتفقد تلك الابنة صبرها مع والدها والذي يتلاشى ادراكه بشكل متزايد ليس فقط بما بعانيه ولكن بمن حوله من بشر وزمن ويصبح أفراد عائلة «الأب» مجهولي الهوية في نظره، لا يستطيع التعرف عليهم، في حين يظهر غرباء على نحو لا يمكن تفسيره في شقته اللندنية، ويرى المشاهد مع الشخصية الشقة نفسها تبدو وكأنها تتحوّل. ويرفض السماح لمن يرعاه بالعناية به .
بينما يحاول أنتوني فهم ظروفه المتغيرة ، يبدأ في الشك في أحبائه وعقله وحتى نسيج واقعه، أصبحت الحياة مصدرًا للارتباك المزعج دائمًا ، وفي صورة بارعة تبدو كلوحة مسرحية ، يروي الكاتب والمخرج فلوريان زيلر القصة من زاوية عينيه بينما نصبح نحن مشوشين بعد ان نتوحد مع تلك المأساة .
في السيناريو المحكم بطريقة سرده والاداء الباهر نجد وجدان أنتوني يتساءل عن طبيعة وجوده لأن ابنته أصبحت فجأة شخصًا آخر في صور معبرة عن الحالة الذهنية المرعبة لشخص مصاب بالخرف ، وكيف يعيش كل يوم بالصدمات المفاجئة ، وكيف أنه من المستحيل السماح لشخص آخر بفهم ما يمر به. نحن في الغالب في مكان واحد محدود ولكن نظرًا للطبيعة المتغيرة باستمرار لمحيط أنتوني ، جعلنا المخرج نتكيف دون ملل مع الحكاية ، بل و بشكل مثير للإعجاب ، حيث تجري الأحداث كلها في شقة الرجل (الضخمة) ، لكنها ليست خانقة لأن الحوار المتلألئ والواقع المتغير يبقيان الأمور تتحرك
اعترف إنها تجربة مشاهدة صعبة وقاسية لكنها ممتعة فى الوقت نفسه ، حيث لم نتشبع فقط بالشكل الروائي المذهل للقصة ، لكن هناك ايضا أداء قوى للغاية وبشكل لا يصدق ،يمكن وصفه ب « المرعب « من هوبكنز ، وارى انه لا يوجد ممثل آخر يمكن ان يتغلب عليه فى سباقات الجوائز الكبرى هذا العام ، فكم شاهدنا أنتوني وهو يحاول أن يشرح بعقلانية لنفسه ومن حوله ما يجوب بخاطره في أكثر لحظات الفيلم حبكة ، فعالمه يتغير لكنه ظل صامتًا ، مدركًا أن أي محاولة للتساؤل عما استيقظ عليه لن تجد اجابة، كما يضفي على شخصيته في الفيلم طابعاً ذكياً ومرحاً وجذاباً، كما عندما يحاول التقرّب من ممرضته الشابة لورا «إيموجن بوتس».
لم نشعر ابدا انه شخصية درامية على الشاشة ، وكأنه عالم حقيقي يعيش به ، فقد اجاد هيلر المخرج وكاتب السيناريو ايضا بمشاركة كريستوفر هامبتون ، في وصول الرسالة الاولى وهى ان الاب حكاية ميؤوس منها بضعفه وعواطفه بعد ان مزقه شيء لا يستطيع التحكم فيه ، وتأثيره لا يُنسى.
إن صنع فيلم يعتمد على مسرحية يمثل تحديًا كبيرا لتركيزه على رجل عجوز مقيم في المنزل يتأرجح عبر الزمن والذاكرة بطرق تثير الدهشة. لكن فلوريان فى اول افلامه وهوبكنز تمكنا بحرفية كبيرة من خلق اجواء سينمائية متفردة ، حيث قام المخرج بتكييف مسرحيته ليوحي بأن الفيلم يحزرنا من تدهور العقل والاستعداد للأسوأ مثلما حدث لرجلنا العجوز والذى جسد روح الشخصية باقتدار وقوة مذهلة مع كل ايماءة ونبرة صوت وادق وميض للعين
حاول « الآب « ان نرى العالم بالطريقة التي يراها ، ولا نعرف على وجه اليقين ما هو حقيقي غير حقيقي مما يجعلنا مرتبكين مثل بطل الرواية الذى يخوض معركة خاسرة مع فقدان الذاكرة
الفيلم يضع الجمهور في مكان رجل يخونه عقله بقسوة. مثل أنتوني ،يفقد ببطء المزيد والمزيد من ذكرياته ، وحتى الذكريات التي لديه تائهة . ويبقى الجمهور غير متوازن مع تأسيس الفيلم لحقيقة المشهد مما يوضح بشكل مؤلم كيف تصبح الحياة مع التقلبات المزاجية غير المنتظمة لأنتوني صعبة ومرهقة بالنسبة إلى ابنته آن ، حيث يتعاطف الفيلم مع آن بقدر ما يتعاطف مع والدها.
أداء هوبكنز الايقوني ظل مصدرا للإلهام بوصوله الى اعماق لم يرها سوى القليل من ، رجل فخور للغاية في حالة حرب مع نفسه يعرف أن ما يحدث غير طبيعي لكنه لا يفهم كيف يصحح المصير
مع بناء الفيلم ، تتطور شخصيته ببطء مع الخوف الذى نراه في النهاية يتفوق على أنتوني مخلفًا فوضى ربما تبكي معها وكأنها لحظة حاسمة لهذا الممثل الكبير.
ولم يكن أنتوني الوحيد المتميز والمؤلم بينما ايضا كان طاقم الممثلين الداعمين ومنهم أوليفيا كولمان ، التى نسجت قوتها من كونها كيف تظهر لغة جسدها الألم والعذاب عند مشاهدة والدها ينزلق منها ، أوليفيا ويليامز ، إيموجين بوتس ، روفوس ستيويل ، وللموسيقى أيضاً دور أساسي في « الاب «، والتى قدمها الملحن الإيطالي لودوفيكو ايناودي
الفريق كله كان مدهشا في تقديم تلك القصة بشراستها وهو ما يجعل تلك السينما رائعة.