محمد زكي ابراهيم
مما يدعو للإعجاب حقاً أن تشترط الجامعات العراقية على طلبة الدراسات العليا فيها إعداد أطروحة علمية بإشراف أحد الأساتذة القدامى، وتقوم بتكليف لجنة من أساتذة آخرين لمناقشتها في جلسة مفتوحة. على أن يتولى الطالب الدفاع عن أطروحته بما يملك من أدلة وقرائن ويجيب عن أسئلة اللجنة بما يتوفر له من حجج وبراهين. وحينما تقتنع اللجنة بقدرات الطالب، وإمكاناته العلمية، تمنحه الشهادة بحسب التقدير الذي تراه.
إن هذا التقليد العلمي ليس معمولاً به في كل مكان. فهناك جامعات عالمية – في الولايات المتحدة مثلاً – تعتمد نظام الاختبارات العادية. وقد حدث أن وزارة التعليم العالي رفضت الاعتراف بشهادة شابة عراقية حصلت عليها بهذه الطريقة من إحدى الجامعات الأميركية قبل بضعة أعوام!
إن إعداد الأطروحة الجامعية تقليد جميل نشأ في القرون الوسطى الأوربية، حيث اعتاد الناس فيها على نظام الفروسية، الذي يقر المنازلة الثنائية كلما اشتجر خلاف، أو أوذي إنسان. والغالب في هذا النزال هو صاحب الحق الشرعي، ظالماً كان أو مظلوماً. أما الخلاف حول حقيقة من الحقائق، أو خبر من الأخبار، فيحسم بالجدل المحتدم، والنقاش الطويل في أروقة الجامعات. فهي حلبة النزال الأساسية في مثل هذه الأحوال. ومنها خرج رموز الثقافة الغربية، ونجومها البارزون.
لقد شهدت الحياة العقلية منذ العصر اليوناني، ميلاً شديداً للجدل. وكانت الساحات العامة الميدان الطبيعي الذي يصغي فيه الناس إلى مناظرات من هذا النوع. ولم تلبث الجامعات أن احتلت هذا الموقع في ما بعد. أما في عصرنا الحاضر فقد غدت الصحف ووسائل الإعلام المرئية المكان المفضل. ورغم أن الجامعات لم تتخل عن هذا التقليد، إلا أن أروقتها لم تعد تشهد إقبالاً على الجدل مثلما كانت من قبل. وأصيبت جلسات النقاش بالعقم وكف الناس عن حضورها إلا نادراً. وليس العراق وحده الذي يعاني من هذا الجانب. فقد حضرت ذات مرة جلسة نقاش لرسالة دكتوراه، قدمتها سيدة لبنانية في موضوع التصوف في بيروت بدعوة من رئيس اللجنة. فذهبت أنا وولداي الاثنان، فلم نجد في القاعة سوى عائلتها الصغيرة. مع أن موضوع الرسالة كثير الرواج هذه الأيام.
بيد أن من آثار هذا التقليد أن المنتديات الثقافية العامة، في العراق وبعض دول المنطقة، التي يحاضر فيها أشخاص مهمون، تمنح الفرصة للنقاش وتوجيه الأسئلة. وتسمح بمداخلات قصيرة للراغبين. وقد تصل الأمور أحياناً إلى خلافات حادة، لكنها لا تخلو من فائدة. إذ أنها تحمل المحاضر على تمحيص آرائه، وتوخي الدقة في عباراته، كي لا تتعرض للنقد الشديد. وحتى يجرى تقييم بحثه بموضوعية وصرامة.
لقد أدى اتساع نطاق الجدل مهمته في الماضي على أكمل وجه، فانتزع المجتمع الإنساني من الجمود الذي عاش فيه قروناً، وأوجد قواعد منطقية للخلاف، وقدم للعالم نماذج رائعة من التفكير والفهم، مازالت محط الإعجاب حتى هذا اليوم.