الانبطاح الفكري !

لم يكن بوسع الدعوات الدينية والسياسية في العصور القديمة الانتشار في رقعة واسعة من الأرض إلا بعد سلسلة من الحروب والمعارك والفتوحات، التي تتيح للناس الاطلاع عليها، وفهمها، والتأثر بها. ففي تلك الأيام كانت الوسيلة الوحيدة للتعريف بالفكرة هي الجيوش الجرارة التي تطأ الأرض وتقتلع الحصون وتأتي بمن تشاء على رأس السلطة.
ولم يكن مثل هذا الأمر غريباً آنذاك، بل كان هو القاعدة التي تقوم عليها أنظمة الحكم في العالم، حتى وقت قريب. ولم ينته إلا بانتهاء مرحلة الاستعمار في الربع الأخير من القرن العشرين. وليس معنى ذلك أن الهيمنة انتهت بتضاؤل عدة الجيوش أو اضمحلال القوة العسكرية، فهذه الأمور الآن أشد ضراوة من أي عهد مضى، وأكثر قدرة على الحركة من أي حقبة مرت. بل لأن عاملاً جديداً لم يكن معروفاً فرض وجوده على الناس، وأثبت أنه أعظم فاعلية من أي سلاح مدمر آخر، وهو الإعلام. فإذا كان الغرض من الاجتياح العسكري هو فرض نمط آخر من الحياة، يخدم وجهة نظر الفاتحين، ويضعف المعارضة المحتملة له، فإن الثقافة باتت اليوم السلاح الأكثر خطراً، والأشد فتكاً. وقد أمدتها تقنيات الاتصال الحديثة بقدرات فائقة في تغيير العقول وتوجيه الأفكار. وأضحى من السهل على الدول الصناعية الكبرى أن تحتكر الأسواق، وتحرز التفوق، بأقل ما يمكن من الخسائر. وقد يأتي اليوم الذي تتخلى فيه هذه الدول عن جزء كبير من إنفاقها العسكري، وتستغني عن جانب مهم من أساطيلها البحرية والجوية، لأنها لم تعد ذات قيمة، خصوصاً وأنها لم تستخدم في السنوات الأخيرة إلا في أحوال قليلة ونادرة. ولم يعد سراً أن الأنظار تتجه اليوم إلى وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية ومواقع التواصل الاجتماعي، أكثر من اي شئ آخر.
وهكذا فإن الثقافة أصبحت سلاحاً ذا حدين، يسهم في تقدم المجتمعات وتهذيب سلوك الأفراد، ويعمل في الوقت نفسه على ترسيخ هيمنة الدول والتبشير بقيمها الاجتماعية. وما نشهده اليوم في منطقتنا العربية من ثورات ومبادرات وتحولات، لم يأت به جنرالات الحرب، بل صنعه جنرالات الثقافة.
قد لا يدرك الكثير من الأشخاص الذين أدمنوا الإعجاب بما يصدره الغربيون من أفكار أن الجزء الأكبر منها يدخل في خانة الحروب الثقافية. وأن أخذها على علاتها، وازدراء كل ما يخالفها، هما شكلان من أشكال «الانبطاح» الفكري والسياسي أمام قوى جبارة لم تعد راغبة في هدر المزيد من المال والدم والوقت، وليست بحاجة إلى خوض معارك شرسة، غير مضمونة النتائج. وقد وجدت ضالتها أخيراً في وسيلة أشد وأمضى من أي وسيلة أخرى، وهي الثقافة. ولأن هذه الوسيلة لا تقارع إلا بأخرى من جنسها، ولا تواجه إلا بجهد منظم لا يقل عنها فاعلية، فإن الاستعداد لموجة جديدة من الحروب الناعمة يجب أن يكون في مقدمة أولويات الشعوب الفقيرة والضعيفة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة