تشكيل البنية السردية في فيلم ( الإمبراطور )
د . سلمان الكاصد
من البداية نسأل .. أين تكمن لذة النص ؟ في شكلها أم في موضوعاتها؟
الشكل يدعو لأن يركب المتلقي أي متلق بنية النص الذي قدم له مجزأ ، حيث يقوم المتلقي بتنظيم الأقسام المتداخلة التي لابد للمشاهد / القارئ أن يعيد بناءها تعاقبياً ، كي يعيش النص مكتملاً من (أ) الى (ي) ، وكل ذلك اشتغال على بنية زمن الأحداث ، فيصبح ذهن المتلقي هو المنسق الأكبر ، لأي بناء عشوائي ، متداخل بالاسترجاع ذهابا وإيابا بالنص ، بما يمكن وصفه كالبندول يميناً وشمالاً ، ماضياً وحاضراً … و هذا مايدلل على براعة الصانع للحكاية.
البعد التشكيلي للحكاية هو الذي يعطيها جمالها، براعتها ، حتى يثير فينا السؤال ما الذي حصل قنبل قليل ؟ وما علاقته بما يجري الآن في النسق الروائي / السينمي وفي ضوء ذلك لابد من فهم كيف صنعت يد المخرج / المؤلف اللعبة التركيبية التي علينا أن نلعبها معها بوصفنا مشاهدين .
نسق الاستباق
الاستباق نسق خارج / داخل بنية الحكاية ، حدث يعطى في البدء ، يسبق بدء زمن الحكاية وكان حقه التأخير ، غير أن هذا الاستباق ربما يرتبط بما يمكن أن يسمى الأرصاد.
لا يهم نحن نقرأ/ نشاهد حدثاً ، نتساءَل ماذا يعني هذا وهو الذي جاء في أول الفيلم / الحكاية ؟. وأين يكون موقعه ؟. ولكن حالما نتتبع السياق نجد أن موقعه الوقائعي ، قد كان في نهاية الفيلم / الحكاية.
تلك جزء من تقنيات الرواية التي انسحبت على السينما ، فبدت سمة البراعة ، بانتقالها من فن سردي لفضي إلى فن سردي صوري ، وبذلك يتداخل هذان الفنان معاً وكأننا نسأل من يؤثر على الآخر؟
تلك الكشوفات جزء من ابداعات (جيرارجينيت) الذي قدم لنا أسرار ( البحث عن الزمن الضائع ) لمارسيل بروست.
يذكرني هذا الفهم النظري بما يقدم لنا فيلم ( الامبراطور عام ٢٠٢٠) من إخراج ( مارك امين) وقصة توماس غرين وتمثيل دايو أوليني بدور ( شيلدز – الامبراطور ) وبن روبنسن ( بدور لوك مكايب القاتل المأجور ) و ناتوري نوجتون بدور ( الزوجة السوداء ) و بروس ديرن بدور ( ليفي تايوت) وكيان جونسون بدور ( روفوس كيلي الفتى سارق البنوك ) وسامويل اي فورد و كاترينا غراهام اليهودية السويسرية بدور ( فتاة المزرعة ) .
لاتزال موضوعة عبودية الزنوج في بدايات التاريخ الأمريكي الحديث والمطالبة بحقوق هذا الجنس البشري تشغل السينما . وهي في ذاتها تحمل خطاباً ملتبساً ( كما سنرى ذلك من خلال شخصية ( بروس ديرن ـ بدور اليهودي -كما أرى – ليفي تايوت )
العبودية والثورة ..
قصة رجل أسود اسمه ( شيلدز غرين ) متزوج من ( ساره ) ولديهما ابن وحيد في العاشرة من عمره ( تومي ) ..حكاية الاحتجاج على التعذيب ( الجلد والوشم ) في ظهور العبيد الذي يمارسه المالك الجديد للمزرعة التي يعملان بها ويمتلكهما معا ( زاندوف ستيفنز ) الذي يسلط عليهما مراقب العمل ( بومنت ) . وكل ذلك يجري بعد ان يخسر المالك الحقيقي ( دوفان ) مزرعته وعبيده في لعبة القمار ، أمام راندوف.
كل ذلك يجري عام ١٨٥٩ في مدينة الحكاية ( شارلستون ـ جنوب كارولينا ) حيث يهرب شيلدز بعد آن تقتل زوجته سارا ، ويودع ابنهما عند جدته الكهل.
أجزاء الفيلم
الفيلم يقسم إلى 4 أجزاء ..
الجزء الأول : الاستهلال : هجوم الثائرين من البيض والسود ( على قلعة هاربرت فيري – مركز سلطة الرجل الأبيض في الجنوب ) بقيادة الرجل الأبيض جون براون الذي يدعو لتحرير العبيد ومعه شيلدز غرين بعد أن أصبح حراً … وهو خاتمة الفيلم أيضاً، أي أنه جزء مقتطع استباقي – كما أشرنا في المقدمة.
الجزء الثاني : (الخارج نصي) بداية النص القصصي ويبدأ من ترقيص الجدة للطفل ( شيلدز غرين ) حيث تخبره بأن جده كان إمبراطوراً على السود وما عليه إلا أن يكون إمبراطوراً في هذا الزمن .. ( زمن الحكاية).
الجزء الثالث: (زمن الحكاية) أو مركز الحكاية الذي يقع بين الاستهلال بالاستباق وماض انقضى بترقيص الجدة ، والحاضر حيث عام ١٨٥٩ وقد أصبح شيلدز رجل أسرة متكونة من ( سارة وتومي ) ، وما جرى لهم من قتل مراقب العمل وزميله من قبل شيلدز ، وهروبه بعد أن قتلت زوجته في لحظة الهروب وما جرى له من حالات مطاردة فيما بعد.
الجزء الرابع : وهو مفصل لاحق من عام ١٨٩٠ ويصور لحظة لقاء الشاب (تومي) مع رئيس تحرير جريدة ما لنشر قصة والده شيلدز ، الذي كان أحد أبطال الحرب الأهلية ، وهذا الجزء يشير إلى حرية العبيد واعتراف القوانين بحقوقهم بالتحرير ، الذي لم يكتمل إلا في ١٩٦١ في زمن جون كندي وما بعده بالمطالبة بالمساواة بقيادة أهم عناصر الاحتجاجات والمطالبات مارتن لوثر كنج.
أنا شخصياً أتوقع أن النص الروائي الذي كتبه توماس غرين كان بعد زمن طويل ( الآن ) ، وأفترضه في العشر سنوات الأخيرة قبل إنتاج الفيلم ٢٠٢٠ ، أي يمكن أن يكون مكتوباً على يد أحد أحفاد ( تومي غرين ) الابن بما يمكن أن ندرج الساردين ( الرواة ) وكما يلي :
شيلدز غرين بطل الحكاية ١٨٥٩ //
تومي غرين الابن الصحفي ١٨٩٠ //
وتوماس غرين الروائي في القرن الواحد والعشرين الذي كتب نص الرواية بتحولها إلى فيلم //
ثم سيناريو الفيلم الذي كتبه ( مارك أمين وبات تشارلز).
هذا التسلسل توصيفي لا أكثر ، غير أن ما نجده في النص هي حكاية تقليدية جاءت في الكثير من أفلام تحرير الزنوج على مستويين
١ – العام – حركة جماهيرية
٢ – الخاص – شخصي
ماذا قدم الفيلم
حاول أن يصور المطاردة بأسمى تجلياتها وحنكتها بالرغم من أن الصدفة والحظ أسهما بتجاوز العقبات التي اعترضت ( شيلدز ) الهارب من قبضة الرجل الأبيض ( المأجور القاتل – والرجال البيض من سكان المدن التي مر بها هاربا ) وهو يتجه صوب الشمال حيث بوادر الثورة من قبل البيض والسود ضد نظام عبودية السود .
هذه الرحلة هي موضوعة الفيلم المثيرة ، كما أن الصدفة دخلت في حكاية الفيلم ، حين إلتقى شيلدز بأحد سراق البنوك ( فتى أبيض ) وبعد أن سرق بنكاً ، مات بسبب إصابته وبذا استودعه المال الذي سرقه إلا أن شيلدز يلتقي ب( ليفي تايوت ) اليهودي (كما أرى) الذي آواه هارباً وهو أحد دعاة حرية السود فيستودعه مبلغاً ضخماً لشراء ابنه بعده ، وكأن العملية قد بنيت على هذا الأساس في محاولة لاضفاء شيء من الانسانية الكبرى على هكذا رجال بنوا أميركا.
يتم التناوب الإنساني على وفق :
1- الفتى سارق البنوك
2- شيلدز
3- ليفي تايوت ( في مهمة شراء تومي من صاحب المزرعة ) .
هذا الحكائي يشير إلى قوة التحرير من اللون :
– رخص المال الضخم بين الأحرار ( البيض والسود أصحاب الأفكار الإنسانية )
ـ غلاء المال الضئيل بين العبيد ( الأسود والأسود ) .
وكل ذلك له مسبباته التي لاتشكل موقفاً لا أنسانياً ضد الأسود الذي حاول اعتقال شيلدز بعدر أن الألف دولار ستمنحه حريته فيشتريها من مالكها الأبيض..
وهذه إشارة دلالية على استحالة قيام ثورة للسود ( الأقنان) ،
عناصر العوائق
وظف المخرج عدداً كبيراً من العوائق التي تثير النص السينمائي منها الطبيعة بالرغم من جمالها الآسر ، الرجال البيض في المدن التي مرّ بها ، قناصو العبيد المأجورون ، المرتزقة ، ولكن بالمقابل وظف المخرج المساعدين .
ينطبق هنا الفعل الحكائي في الحكاية ( سبب الخروج – الخروج – العائق، المساعد ، الغاية ، الوصول ) مع ما رسمته قوانين ( فلاديمير روب ) في كتابه ( مورفولوجيا الحكاية الخرافية ) في تحولات القصص العجيب .
ربما أكون قد ذهبت بعيداً لتأويل حكاية الامبراطور نحو الحكاية الخرافية ، ولكن ما قادني لذلك فعلاً هو ( عنوان ) الفيلم ( الإمبراطور ) Emperor كون الروائي أو المخرج يفترض عناصر الأسطورة التي جعلت من شيلدز إمبراطوراً في زمن لا إمبراطور أسود فيه. وبذلك اقتربت قصة الاسطورة الآن من اسطورة التاريخ الخرافية، تلك التي جاء على تحليلها بروب كونها حكاية خرافية بشروطها التي تنطبق على أسطورة شيلدز.
ثلاثة قادة هم ( جون براون ) الأبيض
و (شيلدز غرين وفريدريك دوغلاس ) الأسودان ،
هؤلاء كانوا قادة التمرد الذي اندلع في الجنوب فسجل لهم التاريخ قيادة حرب أهلية.
من الملاحظ فعلاً أن أفلام السود تختصر كل نضال البنية الاجتماعية السوداء في أميركا بشخص فردي / بطل واحد يصنع الفعل التجاوزي ، تجاوز الخوف وربما هو اقتراب فعلي من روبن هود وغابة شيروود وسبارتاكوس الأغريقي وفي جميع الأحوال تسيطر بنية الاخفاق على تلك الثورات وهذا ما حصل في رواية / فيلم ( الاسطورة ) . كون الرواية بنية إخفاقيه ، إلا أن المؤلف – بالرغم من اعلانه أن القصة حقيقية – أراد أن يقدم تفاؤلية في عمله هذا.
العناصر المساعدة
العوامل المساعدة ، العوامل الفاعلة . العوامل الاخفاقية ، العوامل التفاؤلية جميعها اشتغلت في هذا الفيلم الذي بدت دراميته مأساوية لم تنقذها الطبيعة الخلابة التي تنقل من خلالها البطل ( شيلدز ) متحدياً عالماً قاسياً .
إنه فيلم يستحق المشاهدة بفعل موضوعاته وبنيته التركيبية المحبكة بدقة حيث التلاعب بالزمن أصبح هاجس الروائي / المؤلف.
لكن لابدّ من الإشارة بقوة التصوير التي قدمت روح الحكاية وتنقلات الكاميرا قرباً ، ابتعاداً في المشاهد المتعددة التي برقت فيها قسوة وجوه الشخصيات وطيبتها ، وعربدتها.
نعم إن تاريخ الحرب الأهلية كتبت من قبل البيض ليخدم أجندتهم ، لذا حان الوقت ليقوم رجل أسود برواية قصته ، وكما يقول المؤلف : إنها قصة حياة والدي أحد صناع الحرب الأهلية التي ذهب ضحيتها ٤ ملايين رجل أسود كانوا عبيداً في مزارع الجنوب .
اشارة :
يوجد نصب تذكاري في فترة ( مارتن لوثر كنج ) في مدينة اوبرلين في أوهايو تكريماً لشيلدز غرين ( الأسود الثائر ) وجون براون ( الأبيض الثائر ) والرجال الآخرين الذين قاتلوا في هاربرز فيري لإنهاء العبودية.