الانفصام وانهيار النظام الزمني للأشياء في نصوص (أرى وحدتي ولا أراني)

د. سمير الخليل

       تعتمد صدقية شعرية ما بعد الحداثة على الشكل الخاص في التجربة، والتفسير، والتواجد في العالم، وهو ما يجلبنا إلى الوجه الأكثر إشكالية في ما بعد الحداثة، أي افتراضاتها السايكولوجية المسبقة بخصوص الشاعر (والمؤلف عموماً) والدوافع والسلوك. فالانطلاق من فكرة التشتت والاضطراب في اللُّغة والخطابات سوف يحملنا مباشرة، على سبيل المثال، نحو تصور محدد لـ”أنا الشاعر”، فـ”أنا الشاعر” هنا يكبلها سلفاً انفصام للشخصية (ليس بالمعنى السريري حكماً) هو أكثر من مجرد استلاب أو جنون، فالشيزوفرينيا (انفصام الشخصية) تأتي هنا كاختلال لغوي، أو انهيار في السلسلة الدالة على المعاني والتي تؤلف الجملة الشعرية البسيطة، فعندما تنهار السلسلة الدالة، عندها تصيبنا شيزوفرينيا في شكل خلط بين المدلولات المنفصلة وغير المترابطة، فإذا جرى تركيب الهوية الشخصية لأنا الشاعر عبر خلط مؤقت بين الماضي والمستقبل مع الحاضر. وإذا ذهبت الجمل في المسار نفسه، فالعجز آنذاك عن ربط الماضي والحاضر والمستقبل في الجملة الشعرية يجلب معه عجزاً مشابهاً في ربط الماضي والحاضر والمستقبل في ما خص وحدتنا العضوية البيولوجية الخاصة وحياتنا النفسية.

       هذا الكلام وجدناه ينسجم مع الصورة التي تمظهرت في معظم قصائد مجموعة (أرى وحدتي ولا أراني) الصادرة عن منشورات المركز الثقافي للطباعة- بابل/ دمشق 2016 ، للشاعر “رحيم زاير الغانم” ، وكذلك يترافق إذا لم يتطابق مع استغراق شعريات ما بعد الحداثة في الدالّ بدلاً من المدلول، وفي المشاركة والأداء وما يحدث بدلاً من الصورة الجاهزة والسلطوية، وفي ما يظهر على السطح بدلاً من الجذور. أما تأثير الانهيار في سلسلة الدوال، فسيكون تحويل تجربتنا العملية إلى سلسلة من أشكال الحاضر المجردة وغير المترابطة، ومع عدم تقديم أي معادل يسقط تصورنا للغة بوصفها قادرة على انتاج تأثير انفصامي معين، وبما يشرح، ربما، تصنيف الدراسات الثقافية للإنتاج الأدبي ما بعد الحداثي النمطي باعتباره نتاجاً منفصماً، حيث أن هناك علاقة بين إنفصام الشخصية والأصولية الثيولوجية التي تشيع في المستوى الأعمق نفسه من الطهرانية في إن المتدين فقط هو الوحيد الذي من حقه أن يجوز على المال والجاه والسلطان. وغير المتدين ما هو إلا مسخ شيطاني لا يستحق الحياة. مستنتجين أن “مجتمعنا” ينتج الإنفصامات والإنفصاميين مثلما ينتج الكذب والغش والتزوير، مع فارق وحيد هو أن الأسوياء في هذا المجتمع ليس من حقهم أن يتسنموا أية سلطة، ولنعاين صورة المسخ حسب ما وردت في ثنيات النصوص:

((تمثلاً براهب دير/ يواسي وحشة إله)).(ص7). ((لا أصبر وقت أرى/ المسخ يترصدني)).(ص9). ((ذاك السادن العتيق/ شاهد الصلب)).(ص78). ((لم يفق من حلمه العتيد/ يصارع اليقظة، كابوسه الصحو))(ص88). ((في كل ليلة/ أرى وحدتي ولا أراني)).(ص91).

وتستتبع هذه الموضوعة في الشعر العراقي ما بعد الحداثي عدداً من النتائج، أولى هذه النتائج أنه لم يعد ممكناً إستلاب الفرد بالمعنى الماركسي الكلاسيكي (الاغتراب، التشيؤ)، إذ أنه لتكون الذات مستلبة، مغتربة، مشيّئة، يجب أن تكون أولاً متماسكة متجانسة، وليس مجرد أجزاء أو شظايا، كما هي فعلاً، وقدرة الفرد واقعياً على متابعة حياته في سيلان الزمن أو تفكيره بمستقبل له، أفضل بكثير من حاضره، ومن ماضيه، إنما هي ممكنة فقط بفضل شعوره بمركزية ذاته أو هويته.

إن اختزال الحياة لسلسلة من لحظات الحاضر المجردة وغير المترابطة ينجم عنه أن عيش الحاضر يغدو موقوفاً وبقوة لـ”المادي” وللظاهر، عالم يأتي إلى الانفصام عنيفاً، وحاملاً قوة المشاعر السرية والقمعية ، ومتوهجاً بدوافع الهلوسة: ((أنصتْ/ أيها الكون الصديق/ يبدو أنها اقتربت ساعة المغفرة/ أبعدني عن غيبوبة تتعسف صحوي/ ظلامات تتكاثر في زحام هائل/ حدثني بصدق/ أتراني أتكلم بلساني؟/ فكلما انطق حرفي/ يناكدني معنى خادع/ تتلاشى كلماتي/ وأنطق حرفاً لا يعنيني/ لم أنطق ما لا يعنيني؟ / تجاذبات المغفرة/ وما يدور برأسي يقلقني)) (ص66).

       يمكن للصورة والظاهر والمشهد أن تكون جميعها ممكنة، ولكن فقط من خلال اعتبارها مجرد لحظات زمن حاضر مجردة وغير مترابطة، وعليه فما الذي يحدث إذا فقد العالم آنئذ عمقه وبات عرضة لأن يكون سطحاً رقيقاً، وهماً، أو مجرد تتابع لصور فيلم من دون معنى؟

       إن الفورية المباشرة للأحداث والطابع الحسي للمشاهد المرآوية، السياسية والعسكرية والإرهابية وكرنفالات الحزن والعزاء والمظلوميات هي المادة الخام التي يتشكل منها الوعي الانفصامي.

       إن مثل هذا الانهيار للنظام الزمني للأشياء هو الذي يدفع كذلك إلى التعامل على نحو خاص مع الماضي، فالشعرية الآن، وبسبب من تأثيرات الأصولية وضغوطها تتجنب فكرة التقدم ، وتتخلى عن كل حس بالاستمرارية التأريخية والذاكرة، لكنها تبلور في الآن نفسه قابلية لا تصدق لنهب التأريخ وامتصاص كل ما تجد فيه وجهاً من وجوه الحاضر (وهذه إحدى الدروس التي تعلمتها من الأصولية). أما جمال الحداثة لدى الشاعر كمنتج ، فلم يعد له من مكان، إن خرافة ابتداع الموضوعة المثيمة تختصر إلى مجرد تراكم وتكرار الصور الموجودة أصلاً، والمبذولة بكثرة: ((يدندن قرب النافذة/ يرتل التعاويذ/ يطرق بسبابته الزجاج/ كأنه يطرق الوجود/ تاركاً الأرواح فزعة/ هائمة في اللامكان/ توقف للحظات/ تحرك ببطء، اهتز/ وجفت ألوان المرايا/ لأراه يرتعد بي،/ ثمة انعكاس/ المرايا بلون واحد)) (ص68).

       وسرعان ما يجري حمل هذا النوع من الشعرنة، بكل تداعياته الواضحة، إلى حقول أخرى، فمع تبخر كل حس بالاستمرارية التأريخية والذاكرة، ورفض كل سردية ، فإن الدور الأوحد الذي يتبقى للشاعر، هو أن يصبح كما يلح الأصولي والسلفي، خبير حفريات الماضي ومستحثاته، ينبش في بقاياه ومكباته، وإدانة فكرة أن يكون لـ”أنا الشاعر” موقف ، أو تجنب أن يكون له حتى “لاموقف” لأنه ((حتى اللاموقف موقف)) كما يقول فردريك أنجلز.

       إن الخاصية المجازية للتخييل، كما يخبرنا كتّاب ما بعد الحداثة تعدّ تقانة تنشد تعليق التصديق وتعليق عدم التصديق كذلك، وفي ما بعد الكولونيالية (ما بعد الاستعمار) هناك دعوة واضحة لتعليق استمرار الإيمان بالقيم والاعتقادات، أو حتى باللااعتقادات كذلك.

       هذا الافتقار للاستمرارية التأريخية في القيم والاعتقادات، يضاف إليه اختزال النص الشعري (والأدبي عموماً) إلى مجرد نص رمزي متقطع في الزمن، يفرض على الحكم النقدي والجمالي مشكلات من كل نوع، فرفض – أو عملياً تدمير- كل المعايير الثابتة للحكم الجمالي بوصفها معايير سلطوية لا يبقي للحكم ما بعد الحداثي غير إمكانية للحكم على مشهدية المشهد لا أكثر.

       أما عن حقيقة العنوان الرئيس للمجموعة (أرى وحدتي ولا أراني) فهو يثبت وحشة سيطرة الشاعر على مادته (أرى وحدتي) وشعوره بالانعزال مما يرى ويسمع، وفقدان راحته الفردية، واليأس المنتشر (ولا أراني) بل الضياع والاغتراب في الوطن. كل ذلك لم يكن في يوم ما متفشياً في شعرنا كما هو الآن، قصائد في أقصى ما يمكن أن تكون عليه من ألم ويأس وفقدان للأمل ومشاهد في أقصى ما يمكن أن تكون عليه من خراب وتدمير نفسي، وكلها مصورة في بيان وأسلوب هما صورة لواقع مشوّه. ينبغي أن نتحلى بشجاعة الاعتراف بأن الشعر العراقي اليوم هو صحراء من اليأس تتخللها مع ذلك براعم خضراء تناضل من أجل التشبث بالحياة والأمل وبلورة شيء مختلف عن ذلك الضجيج الذي نسمعه ولا نرى مصدره –ورحيم برعم نضر- ربما يكون مصدره تلك المسوخ الانفصامية التي تترصدنا في الزوايا المظلمة بغية الإجهاز علينا بكواتم الصوت، أشعر أنَّ رحيم زاير شاعر واعد لغته الرمزية مصاغة بحرفية عالية ورؤى متجددة وسيتطور أسلوبه في الأداء الشعري مع استقرار الوضع السياسي والثقافي وحضارية المجتمع العراقي لأنَّ رحيماً هو شاعر يرسم الواقع بأداء فني.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة