علي لفته سعيد
نتيجة للواقع المرير الذي نعيشه، والذي تربّع فيه الخوف من المجهول أمام قوّة متنوعة لا تبدأ بسلطة الأهل ولا تنتهي بالسلطة السياسية والدينية، يلجأ المرء الى جلد الذات. وهو أمرٌ قد تحوّل الى ثقافةٍ متداولةٍ صارت العنوان الأبرز في طريقة التفكير وعدم القبول بأيّ شيءٍ ورفض كلّ شيءٍ، والشك من كلّ شيء، بل عدم القناعة بأية أطروحاتٍ جديدةٍ خاصة إذا كانت هذه الأطروحات تأتي من السلطة السياسية، أو فيها جنبةٌ دينيةٌ وحتى ثقافية، لأن الواقع الجديد هو واقعٌ مأزومٌ لا يقبل القسمة إلّا على آلاف المتراكمات التي لا تُعطي نتيجةً محدّدةً فوق الصفر، فصارت النتيجة دائما تحت الصفر، غير مرئيةٍ في أهمية الوعي الثقافي.
ولأن جلد الذات كما يعرف إنه محاولةٌ فطريةٌ لتحقير النفس أو تصغيرها أو الشعور بالسلبية، ولا جدوى من الحياة، وإن كلّ شيءٍ فيه تقصيرٌ، وكذلك الإخفاق في الوصول الى الأهداف التي يسعى إليها وهو ما يأتي الى مآل الهروب من المشاكل.. لأن لا سعي لحلّها لذا يكون التعامل سلبياً مع كلّ شيءٍ. مما يؤدّي الى تداخل المفاهيم بصحيحها وضدّها، مما يؤدّي الى الشعور بالذنب والبحث عن مهربٍ من هذا الشعور. فيكون اللّجوء الى جلد الذات كأحد مصدّات ردّ الفعل الغاضب الذي لا يريد التحوّل الى فعلٍ قاسٍ، قد يحسب على اتجاهاتٍ وتسمياتٍ سلبيةٍ عديدةٍ، لا تبدأ بالجريمة ولا تنتهي بالطائفية. وجلد الذات طريقةٌ من طرائق الهروب الى الأمام دون إدراك إنه أحد أسباب المشاكل أو المواجهة بطريقة الانتقاص من النفس، إذا ما اعتبرنا جلد الذات واحدةً من طرائق الانتقاص أيضا. وهو ما يحصل حين نجد أن هذه الثقافة صارت علامةً فارقةً من عوامل تدمير ليس الفرد بل المجتمع.
إن ثقافة جلد الذات هي محاولةٌ لغسل تلك الحالة المخبوءة في لاوعي المعارضة لكلّ شيءٍ يقف بالضدّ، ومحاولة ملء الفشل من عدم تحقيق الأماني والحلم مثلا، أو تعويض على النقصان الحاصل في فهم الذات نفسها أو فهم الآخر، أو تداخل المفاهيم والسياسات والإجراءات التي تتّخذ من قبل السلطة.. فلا تكون هناك قدرةٌ على نقدها بصوتٍ عال.. لأن المآل هو الخراب أو الموت، أو إن الأمر أصبح محتشدًا بما لا يقبل الحصول على نتائج مرجوّةٍ، ويكون عنوانها اليأس.. فلا مجال آخر للمساهمة في الحلّ الذي وُضع من قبل الآخر المخطّط لكلّ المآسي في أنفاقٍ متعدّدةٍ، ليس لها مخارج أو أبواب مفتوحة.. فيكون الهرب الى جلد الذات وعدم القبول برأي الآخر، مما يؤدّي الى استخدام وسيلة الانتقاد والانتقاص.
إن هذه الثقافة تؤدّي بدورها الى تقمّص المنتقد دور الفاهم الباحث عمّن يأخذ رأيه، وهي على العكس من المفهوم العلمي، على اعتبار إن جلد الذات هي( المبالغة في انتقاد الشخص لذاته ولومه لنفسه وتأنيبه لها لارتكابه سلوكيات خاطئة ) وكذلك (إلحاق الأذى بنفسه متعمدًا رغبة في الشعور باللذة والمتعة) بل ما نعنيه هو ثقافة الجلد العامة المجتمعية بشقّيها المعنوي والمادي، حيث يسبب الشعور بعدم جدوى الحياة أو على الأقل جدوى إيجاد الحلول لمآسي الناس وانحدار الوعي والثقافة، الى عملية جلد ذات جماعية لمحاولة تجاوز الإحباط الذي ولّدته العوامل العديدة التي أصابت المجتمع بالكثير من الداءات والعلل.
ولأن جلد الذات مرتبطٌ بتحقير الذات نفسها، إلّا إن ثقافة جلد الذات المجتمعية تسعى الى تحقير الآخر وتحقير المجتمع وخاصة المعارض، مما ولّد الكثير من ردود الأفعال التي تتمحور حول هدفيةٍ واحدةٍ هي تحقير رأي الآخر، حتى لو كان من خلال تقمّص روحية الخبير والمثقّف والباحث والمحلّل والحكيم والعالم بكل شيء.. وهو أمرٌ يكون واضحاً وجلياً في ما يقرأ في شبكات التواصل الاجتماعي المختلفة، التي يمكن رؤية عملية جلد الذات من خلال جلد الآخر والانتقاص منه وأنه هو المسبّب بكل المآسي والكوارث والسلبيات وحالات التعصّب، وهو في الحقيقة يعبّر عن لحظةٍ مقيتةٍ في عدم رؤية الضوء في نفق الحياة السياسية والدينية.
إن هذا الثقافة قد تبدأ بعملية المعارضة لكلّ شيء يطرح، وإن هناك خلخلةً تحدث داخل النفس مفادها إن ما يطرح في الواقع من أجل تغييره الى الأفضل، ليس فيه فائدة بسبب حالة اليأس التي أصبحت هي الأخرى ظاهرةً ثقافيةً يتم تداولها، سواء بالمقالات أو التحليلات النفسية أو داخل شبكات التواصل الاجتماعي، وان التعميم هو المبدأ الغالب على أيّ ردٍّ ممكنٍ حضوره، إذا ما طرح أحدٌ ما رأياً، فيكون ردّ الفعل قاسياً في الكثير من الأحيان لعدم وجود الثقة في الحوْل الذي يحيط المرء، وهو حوْلٌ له لونٌ أسود في عيون الجالدين للذات، فتختلط عندهم عملية النقد بعملية جلد الذات.. خاصة إذا ما كان الفشل في الحياة ليست الشخصية فقط بل العامة التي تسبّب بها الواقع المجتمعي والسياسي بكلّ تفرّعاته، وهذا الفشل في المفهوم العلمي هو توقّع حصول النجاح، فيحصل الفشل، لأنه جاء لعدم وجود صبرٍ وتخطيطٍ والانغماس في الوهم والخيال البعيد، مما يولّد شعوراً بالألم النفسي والجسدي، مما يؤثّر على الأداء الشخصي وتراجع عملية تحفيز هرمون الأدرينالين مما يؤثّر بشكلٍ سلبيٍّ على تشخيص الخلل، وهو الأمر الذي يدفع الحقل الجمعي في موضوعة جلد الذات الى التنافي مع المبادئ، خاصة إذا ما وجد المرء الحلم والأمنية والتطلّع تصطدم بعوائق السلطات المختلفة التي لها الثقل السلبي في ميزان القوى.
أن ثقافة جلد الذات أصبحت ثقافةً عامةً يلجأ إليها الكثير من المثقّفين، ليس فقط للعشور بالإحباط بل لأنها عملية طرح الصوت والرأي بطريقته الخاصة التي تمنحه شعوراً باللّذة حين يكون هذا الجلد موجّهاً الى الآخر، على إنه نقدٌ لاذعٌ، وهو في الحقيقة في أغلب طروحاته جلداً لذاته، سواء كان يعلم أو لا يعلم.