التنوع والاختلاف من طبيعة الاشياء، ومن دون تدافع المصالح والرؤى بين البشر، لا وجود لكل التحولات التي عرفتها المجتمعات البشرية على شتى الاصعدة المادية والقيمية، عندما نتصفح شيئا من تاريخ نشوء وتطور البلدان والدول الحديثة، نجدها قد ارتقت الى ماهي عليه اليوم من استقرار وديناميكة وازدهار، بعد مخاض طويل ومرير، عرفت فيه كل اشكال النزاعات والحروب الداخلية والخارجية، وكل اشكال التجارب والمغامرات والهذيانات، لتصل الى ما وضعناه عنواناً لمقالنا أي (سن التسويات). وهي المرحلة التي تشير الى وصول ذلك البلد وأهله الى سن الرشد السياسي والقيمي، بعد تسديد فواتير حقبة “الاقصاء” لبعضهم البعض الآخر، وقصورهم عن وعي مغزى التعايش المشترك واحترام الآخر المختلف؛ بوصفه الشرط الاساس للحياة المعاصرة. لا نحتاج الى جهد كبير او ذكاء خاص كي نتعرف على لعنة “الاقصاء” في المشهد العراقي، فمحطات تاريخه الحديث (1921-2020) حافلة باشد اشكال الاقصاء فتكاً، لكل ما هو مختلف اثنيا وعقائديا ودينيا وثقافيا وسياسياً، وقد مثلت “جمهورية الخوف” سنامه الاعلى ومثاله الاكثر اجراما ووحشية.
ذلك الارث الطويل من ثقافة اقصاء الآخر المختلف وشيطنته، لم يتأثر بعد زوال النظام المباد، بل ساعدت فسحة الحريات وما طفح من قوى ومصالح، بفعل شروط الفوضى وعدم وجود بدائل وطنية وحضارية؛ الى اندفاعه لأطوارا جديدة من التشرذم والهوان. لقد كشفت القوى والجماعات وسكراب الاحزاب، التي تنطعت لمسؤولية ما يفترض انها مرحلة للعدالة الانتقالية؛ عن نوع همومها واهتماماتها واولوياتها البعيدة عما تتطلبه هذه المرحلة، من نضج وحكمة ومسؤولية وايثار تجاه قضايا الوطن والناس، أي “سن التسويات”. من دون وعي علل هذا الخلل البنيوي المتمثل بعجزنا العضال عن اجراء تسويات سياسية ومجتمعية، ولاسيما منها جانبها الثقافي والقيمي والنفسي، لا يمكن انتظار ولادة تحولات نوعية وراسخة في المشهد الراهن. هذا “المعنى الجديد” وما يرافقه من تقاليد سلوك واسلوب حياة متخفف من ارث “الاقصاء” ليس لم يولد بعد وحسب، بل انه يقبع في قعر اولويات القوى النافذة وباقي الاطراف التي تنازعها أسلاب الغنيمة الازلية. ان ذهنية “المنتصر والمهزوم” بكل ما تحمله من تطلعات للهيمنة والانتقام، وعبر شتى الذرائع الآيديولوجية والاجتماعية والسياسية، لا يمكن ان تساعد على بناء أوطان ودول حديثة.
البعض من “الافندية” الذين ذاع صيتهم ببركة وسائل الاعلام ومنابره المختلفة (التقليدية منها والحديثة) يروجون ومن دون ادنى وجع من عقل أو ضمير؛ لسيل من الاوهام واشباه المعارف، التي تفسد وعي المتلقي وتعطل قدرته على فهم ما يجري، عندما تقفز به الى ما بعد “سن التسويات”، ليجد نفسه في نهاية المطاف أمام فصول اضافية من الاوهام والمزاودات وما يترتب عليهما من فواتير أدمنا على تسديدها مع كل اعادة تدوير لمثل هذه الخيبات والسلوكيات النزقة.
لا يمكن الهروب من حقيقة عدم امتلاكنا لشروط ومستلزمات “سن التسويات”، وهذا ما تؤكده تجاربنا الخائبة فيما عرف بـ “المصالحة الوطنية” وما استنزفته من وقت وجهد وامكانات، وغير ذلك من محاولات ترقيعية وعقيمة لترميم الاوضاع المنحدرة الى المزيد من التشرذم والهوان. متى ما وصلنا الى قناعات مشتركة بعدم جدوى “الانتصار” على بعضنا البعض الآخر، آنذاك سنتعرف على التحديات التي اغتربنا عنها منذ اكثر من الف عام وعام..
جمال جصاني