الهروب من نفق مضيء
قصة هروب سجناء سياسيين من سجن الحلة المركزي عام 1967
الحلقة 11
تمكن الكاتب جاسم المطير في كتابه الهروب من جسر الحلة، أن يقدم للقراء حدثاً إنسانياً رائعاً بروح نضالية شبابية عالية الهمة ومسؤولة في آن واحد , حدث بدأ في منتصف عام 1967 وانتهى مع نهايات العام تقريباً.
كتاب المطير هذا ضم مذكراته عن ذلك الحدث البعيد وما رافقته من أحداث.
وفي هذا الكتاب ترك المطير للأخرين ممن جايلوا ذلك الوقت او عاشوا الحادثة، فسحة للحوار حين أكد على أن من يتحدث عن مسألة معينة سيراها من زاويته الخاصة , وبالتالي ترك المجال لمن يريد أن يدلي بدلوه في هذا الصدد , سواء بالإضافة أو إبداء الملاحظة أو التعديل. غير انه توخى في من يريد التحدث او الكتابة في هذا الأمر أن يكون ملماً به أو يسعى للإلمام به ومراجعة من عايش الحدث منذ البداية بهدف تجميع موزائيك اللوحة كاملة قبل البدء بالكتابة عنها. هكذا طلب جاسم ممن كتب عن الحدث حينذاك , وهكذا يفترض أن يكون.
ومن هنا تبادر ” الصباح الجديد ” الى نشر سلسلة حلقات من هذا الكتاب الشيق.
جاسم المطير
الذكاء هو الصفة الاكثر ملاءمة لنجاح عمل ثوري من نوع الهرب من سجن محاط بالجدران العالية ، محروس بعدد غير قليل من السجانة المسلحين من ذوي الشخصيات المصممة والمدربة على قمع السجناء وازدراء كل قيم الانسانية . الخطوة الاولى في هذا العمل هي توفر العلاقات الشخصية البعيدة عن الانفعالية بين مجموعة المخططين والمنفذين اعتمادا على عوامل الكفاءة المعرفية بجميع جوانب وبيئة العمل كما يجب ان تكون العلاقات قوية وذكية لكي يمكن لنخبة التخطيط ولنخبة التنفيذ مواصلة عملية حفر النفق من دون ان تنكشف في أي مرحلة من مراحلها التي ستكون طويلة بدون ادنى شك . وقد اتخذ نصيف الحجاج ومظفر النواب وحافظ رسن شكلا رفاقيا نادرا في علاقاتهم اليومية على مر فترة وجودهم المشترك داخل سجن الحلة وكانت القوة المحركة لجميعهم هي الذكاء والتفاعل المتبادل ضمن سياق هذه العملية الثورية المفعمة بالوعي والاستعداد والبرمجة وفق مبدأ خطوة خطوة .
ثمة شائعات كثيرة عن احتمال هرب سجناء من سجن الحلة في هذه الظروف السياسية المعقدة المحيطة بالبلد . ومن المعروف أن الشائعات دائما موجودة في كل سجن ، لدى ادارة السجن ، ولدى السجناء وهي امر طبيعي في ظل ظروف سجنية لا ترحم كظروف السجناء السياسيين في العراق .
ادارة السجن في حذر دائم وفي يقظة دائمة ، وبين السجناء لا يتوقف تداول مفردة الهرب .
هذان الموقفان كانا في حسابات مسئول السجن نصيف الحجاج ولدى فريق تخطيط الهرب لذلك ليس هناك متسع من الوقت للبدء بحفر النفق غير الانتهاء من دراسة جميع المقترحات والآراء المطروحة حول واقع الموقفين المذكورين ، وصولا الى الصيغة التالية :
الحفر والهرب من الصيدلية ، والتضليل يجري من المطبخ .
تقرر تكليف فاضل عباس وعقيل حبش الجنابي بمهمة القيام بما يساعد على بقاء خيال ادارة السجن متركزا على ” المطبخ ” . وبتداول الامر بين مظفر النواب وحافظ رسن تم استدعاء فاضل وعقيل للذهاب الى المطبخ واجراء الكشف المطلوب عليه كشفا دقيقا لمعرفة مقدار المساحة التي يحتاج اليها ” ركَم الخشب ” لايجاد عازل بين المطبخ ومخزن المواد الغذائية التابع له . وقد تجاوب فاضل عباس وعقيل حبش بسرعة وحماس في دراسة هذه المهمة واحتياجاتها وقد برهنا على ذكائهما في مسعاهما السريع في انجاز مهمة الدراسة لخدمة هدف الهرب وهما في الواقع لم يكونا عارفين ، بعد ، بقرار يتعلق باختيار ” الصيدلية ” معبرا إلى الحرية وهو قرار أتخذ بشكل نهائي غير قابل للتغيير كمنطلق للهرب .
بعد وقت قصير من ذهابهما الى المطبخ والمخزن وتحديد قياسات جغرافية مضبوطة للجدار الخشبي العازل ، انتظمتْ افكارهما الكاملة ووجدتْ مكانها على ورقة صغيرة عن خطة العمل وعن مقدار كمية الخشب التي يحتاجان اليها لإتمام عملية “الركَم ” وكذلك عدد المسامير وغيرها .
انتقلت الورقة من يد فاضل عباس الى يد حافظ رسن ،ومن ثم إلى يد نصيف الحجاج .
انتقلت الورقة من يد نصيف الحجاج الى يد احد مندوبي السجناء لدى ادارة السجن بقصد تقديم طلب رسمي الى مدير السجن للحصول على موافقته لبناء جدار خشبي بين المطبخ والمخزن ومن ثم تزويدنا بالكمية المحددة من الخشب والمسامير والادوات الاخرى .
بعد قليل شعرنا ان ادارة السجن كانت مفرطة في اللين والتساهل والتجاوب فقد ابلغ ممثلنا بموافقة مدير السجن على هذا الطلب وهذا معناه انها لم تدرك الوجه الخفي لاهداف ” ركَم ” الجدار بين المخزن والمطبخ . ربما ادركت الادارة بــ” ذكائها ” الخاص ان السجناء الشيوعيين يريدون استخدام المطبخ طريقا للهرب . وبسبب ان موقع المطبخ ليس بعيدا عن موقع الادارة وتحت بصر ربايا المراقبة فقد وافقت بسرعة على مطلبنا لوضع المطبخ تحت رقابتها الصارمة وافشال خطة هرب سجناء كانت قد ضمرت في رؤية مدير السجن واعوانه عن هذا المكان وليس غيره .
أثار هذا الموقف الإداري الغبي ، من وجهة نظرنا ، والذكي من وجهة نظر ادارة السجن ، نبرة خاصة مشجعة لدى فريق تخطيط الهرب وكانت مبعثا لسرور عميق لا يخلو من شجن مثل سامع غناء الميجنا والعتابا وقد وجد هذا الموقف صدى ايجابيا واسعا في تفكير مظفر النواب ونصيف الحجاج وحافظ رسن ، إذ كان معناه الاول ان خطوة التضليل قد نجحت وان سرعة استجابة مدير السجن تعني تفسيرا لجذوة الادارة وحساسيتها ورغبتها الخاصة في تشديد إجراءات الرقابة التي ستركزها على” المطبخ ” وليس على موقع آخر ، مما يفرض علينا التعامل مع هذه الخطوة بالتواصل الايجابي مع خطوات لاحقة مقررة سلفا وصارت الضرورة ملحة باهمية إبعاد القلق والحيرة من صدور فريقي التخطيط والتنفيذ فقد صار عندنا امل بالنجاح تضاعف هذا اليوم الف مرة عما كان قبلا ، وقد اصبح لوقتنا لون خاص وطعم خاص وعلينا ان نستفيد من كل دقيقة وساعة فيه لكي نجتاز جدران السجن باجنحة تتبارى رؤوس فريق التنفيذ لصنعها باسرع ما يمكن وصولا الى صفوف الحزب المضرج بالدم .
من جهة ثانية كانت هذه الخطوة دافعا لممثل السجناء النقيب السجين الشيوعي جبار خضير ، الوسيط اليومي بين داخل السجن وخارجه ، بين السجناء والسجانين وهو شاب متماسك وذكي ونشيط ورزين في تصرفاته ، للاستفسار من مسئول المنظمة الحزبية نصيف الحجاج عما دار في خلده بأن خطوة عزل ” المخزن ” عن ” المطبخ ” هي جزء من افتراض عملية هرب قادمة فأجابه نصيف الحجاج بدرجة عالية من الموثوقية انها فعلا جزء من هذا الافتراض وأن عليه ان يكون ، ابتداء من الآن، بمستوى هذا الفعل الثوري الذي تستعد المنظمة لتنفيذه وعليه ان يتعامل مع ادارة السجن مستقبلا بكل انواع الخطوات والعبارات والاجراءات التي تساعد في تضليل وتعمية أفراد تلك الادارة .
بعد 48 ساعة تجسدت حقيقة التضليل فقد كان الخشب المطلوب توفيره من ادارة السجن جاهزا بل منقولا بأيدي السجانة وموضوعا بالمكان المطلوب في المطبخ ..
هذه الفرضية صارت في مرحلة الاختبار الناجح.
انها المرة الاولى التي تتجاوب بها ادارة السجن مع مطلب السجناء بمثل هذه السرعة.
خلال يومين كان الجهد المتتابع من قبل فاضل عباس وعقيل حبش وبتجانس ِ أهدافهما المشتركة وسباقهما المتحمس فقد تم انجاز الجدار الخشبي بسرعة متوافقة مع سرعة مدير السجن في تلبية مطلب الخشب . كانت مهمة صنع هذا الجدار تبدو بمعنى من المعاني ان لها علاقة بتاريخ كل واحد منا وان نجاح الهرب سيوقظ مدينة كل واحد منا .
فكان انجاز المهمة قد تم بقدرة مهنية فائقة أعجب بها مدير السجن .
وقلت مع نفسي : لك المجد يا فاضل عباس فقد صار عنق النفق تحت قدميك .
ولك المجد يا عقيل حبش فقد وفر صنيعك امكانية العزف على قيثارة الحرية .
هذا الاختبار الناجح قدّم دفعة ً جديدة ً للخطوة الثانية المفترضة قبل البدء بالحفر . إذ لا بدّ من ابلاغ فريق التنفيذ بضرورة دراسة جميع الامور المتعلقة بخلفية الحفر في الصيدلية اعتمادا على قدراته في فهم ورسم مسارات العمل اليومي لهذا الفريق وسياق عمله الجماعي في استيعاب طبيعة المشاكل المحتملة والبحث عن حلول لها .
من جانب ثان كان لا بدّ ايضا من ايجاد تضليل من نوع اخر ، هو ضمان دخول وخروج فريق التنفيذ الى الصيدلية ، ليلا ونهارا ، من دون ان يثير ذلك سؤالا ما لدى السجناء انفسهم على اعتبار ان هذا الفريق ليس من العاملين في الطب او الصيدلة وربما يؤدي ترددهم اليومي على الصيدلية الى تفاعل اسئلة كثيرة بين السجناء عن اسباب التردد كل ليلة مما يعزز فكرة الاستعداد للهرب خصوصا وان السجناء الشيوعيين يتميزون بذكاء متفاعل مع حركة بعض كوادر السجناء لمعرفة مهماتهم داخل السجن مما قد يؤدي الى احتمال معرفة الاستعدادات للهرب من خلال استنتاجات ذكية لهذا أو ذاك من السجناء أو المتطفلين .