هروبنا

الهروب من نفق مضيء
قصة هروب سجناء سياسيين من سجن الحلة المركزي عام 1967

تمكن الكاتب جاسم المطير في كتابه الهروب من جسر الحلة، أن يقدم للقراء حدثاً إنسانياً رائعاً بروح نضالية شبابية عالية الهمة ومسؤولة في آن واحد , حدث بدأ في منتصف عام 1967 وانتهى مع نهايات العام تقريباً.
كتاب المطير هذا ضم مذكراته عن ذلك الحدث البعيد وما رافقته من أحداث.
وفي هذا الكتاب ترك المطير للأخرين ممن جايلوا ذلك الوقت او عاشوا الحادثة، فسحة للحوار حين أكد على أن من يتحدث عن مسألة معينة سيراها من زاويته الخاصة , وبالتالي ترك المجال لمن يريد أن يدلي بدلوه في هذا الصدد , سواء بالإضافة أو إبداء الملاحظة أو التعديل. غير انه توخى في من يريد التحدث او الكتابة في هذا الأمر أن يكون ملماً به أو يسعى للإلمام به ومراجعة من عايش الحدث منذ البداية بهدف تجميع موزائيك اللوحة كاملة قبل البدء بالكتابة عنها. هكذا طلب جاسم ممن كتب عن الحدث حينذاك , وهكذا يفترض أن يكون.
ومن هنا تبادر ” الصباح الجديد ” الى نشر سلسلة حلقات من هذا الكتاب الشيق.

الحلقة 10

جاسم المطير

كل شيء خارج السجن يؤثر علينا وعلى محفزاتنا ،كل تحرك جماهيري يحرك عندنا رغبة النضال الأكبر ، إذاعة ” صوت الشعب العراقي ” تمنحنا وعد الخلاص الشامل ، عائلات السجناء متفائلة .
لكن الساحة السياسية والعسكرية في الجمهورية العربية المتحدة تعجّ بالمفاجآت، تقلبات سياسية نحو اليمين تارة ، ونحو اليسار تارة أخرى ، مواقف متباعدة بين مصر والدول العربية الأخرى . هنا انغلاق وهناك انفتاح لدى هذا البلد العربي أو ذاك ، خاصة في الدول العربية المواجهة لإسرائيل التي تزداد تحدياتها بالعدوان العسكري المسلح . وهناك ضغوط أمريكية تتدخل في خصوصيات الصراع العربي ــ الإسرائيلي بانحياز تام تحاول فرض السير في تلك الخصوصيات كجزء من خططها في الحرب الباردة لتطويق نفوذ الاتحاد السوفييتي ، في الشرق الأوسط ، و في مصر وسوريا على وجه التحديد . الدول الغربية الأخرى كفرنسا وبريطانيا وغيرهما تتعامل مع العرب بدرجات حرارة مرتفعة أحياناً وتحت الصفر أحياناً أخرى حسب تطور تنسيق علاقاتها مع إسرائيل ومع الولايات المتحدة ، أي حسب مصالحها الرأسمالية . هذا التطور فيه السلبية ببعض الجوانب وفيه الإيجابية بجوانب أخرى ، لكنها كلها تعطينا دلالة واضحة أن المنطقة ستكون قريبا منطقة حرب جديدة .
كنا في سجن الحلة نشعر بهذا الواقع وعلينا أن نتعامل مع قرارنا بالهرب بأسرع وقت ممكن . كان تقديرنا داخل السجن أن القادم من الأيام سيكون مصحوبا بمزيد من الضغط على الشيوعيين وليس العكس كما يعتقد الكثيرون . كما كنا نتوقع احتمالات خطوات بعثية جديدة وربما انقلابا عسكريا جديدا حسبما كنا نقرأه في الوضع السياسي عموما وحسب استعادة حزب البعث لتنظيماته التي ضربت بعد 18 تشرين الثاني 1963 .
كان كل شيء يبدو في حالة سباق مع المجهول القادم .
وجدنا ، نحن في سجن الحلة ، أنفسنا في حالة سباق ، أيضا ، مع الزمن المخيم علينا ، رغم يقيننا ان ” حالة ” وضعنا هي صغيرة تماما ، قياسا لما هو سائد في ” الاتجاه العام ” في سياسة حكومة بغداد ، خاصة وأننا كنا نعي وجود خلافات داخلية غير معلنة في سجننا الواحد على أرضية سياسة عرفت بــ ( خط آب 1964 ) بالعلاقة مع ما يجري في السياسة الحكومية الجارية بالتحالف مع القومية الناصرية ومع تحالفاتها المصطنعة . كان الجدل اليومي بين السجناء حول سياسة الحزب العامة دافعا لسباقنا لمسافة طويلة صعبة ، كما كانت الأخبار الواردة إلينا مع العائلات الزائرة دافعا ثان ، وكانت خطوات الشيوعيين المصريين الذين انضووا تحت قيادة عبد الناصر في الاتحاد الاشتراكي دافعا ثالثا . كانت جميع الصور ، بنظرنا ، رمادية اللون إن لم تكن سوداء . جميع الأسباب السياسية لا تقبل تبرير أي ” تريث ” في الهرب بعد يقيننا أن جميع زوايا ” العفو العام ” هي زوايا مغلقة لا يأتي من وراءها أي خير للسجناء ، ولا بد من مواجهتها كواقع فرض نفسه علينا وعلى شعبنا وفق نغمة ” القومية العربية ” وصراعها مع إسرائيل . هذه الجدلية ساعدت في وضوح رؤيتنا بأهمية الشجاعة في البدء بالتنفيذ من دون تأخير.
وجدنا أنفسنا أمام الخطوة الأولى في رحلتنا الصعبة المقررة بألف ميل نحو الخروج إلى الحرية من خلال ” نفق ضيق ” علينا أن نهيئ مدخله ونهايته وفقا لتقسيم عمل يومي متواصل مبني بين فريقين : فريق ” التخطيط ” وفريق ” التنفيذ “. في الحقيقة أن فريق التخطيط لا يعرف على وجه اليقين إلى أين تؤدي الخطوة الأولى وهل يمكن أن نبصر نور الحرية في نهاية النفق المأمول بعمل مجيد ينجزه فريق التنفيذ ، علماً أننا جميعا على يقين أن رحلتنا الصعبة ذات علاقة مستقبلية قد تكون مؤلمة بحياة مئات السجناء الموجودين داخل السجن في حالتي الفشل والنجاح إذ من المتوقع أن تلجأ سلطات السجن والحكومة إلى منتهى القسوة مع المخططين والمنفذين في حالة الفشل ، ومن المؤكد أنها ستتعامل مع باقي السجناء بقسوة اشد وبغلظة بوليسية وحشية في حالة نجاح هرب مجموعة من السجناء . وضعنا في حسابات الخطوة الأولى احتمالات مواجهة القوة الشرسة التي لا ترحم سجناء شيوعيين يحاولون الهرب من قبضتهم ونتيجة هذا التقدير في أذهان فريقي التخطيط والتنفيذ وجدنا أنفسنا جميعا في هذه المرحلة نتصرف بمزيد من السلاسة واللين في علاقاتنا بأنفسنا وبالسجناء الآخرين ، لذلك وضعنا نصب أعيننا أبعاد كل حركة طائشة أو غير مفيدة أو ناقصة أو معتمة .
ربما تستغرق عملية الحفر أسابيع عديدة ومن يدري ربما نحتاج إلى أشهر طويلة . ربما تواجهنا صعوبات وتطورات غير محسوبة أو أننا غير منتبهين إلى احتمالات مفاجآت كثيرة . بصورة تلقائية تأكد لدينا قرار في داخلنا بضرورة المحافظة التامة على هدوء أعصابنا وعلى أن تكون ذواتنا غير نافرة من الصعوبات والمعوقات والمشاكل التي قد تواجهنا داخل النفق وخارجه . المهم يجب أن نبعد أنفسنا عن كل قلق وكل كدر . كانت النزعة القيادية في سلوك وتصرفات نصيف الحجاج المسئول الفعلي المباشر للمنظمة الحزبية قادرة على خلق التماسك المعنوي بين المجموعتين ترافقه قيم حسنة وجمالية اعتمدها مظفر النواب كممارسة عملية في طقوس العمل ضمن منظور جمع القيم النضالية لاجتياز الفعل التاريخي الثوري من اجل تحرير أنفسنا بأيدينا .
صارت عندنا قناعة بضرورة عدم المبالغة بإمكانياتنا وظروفنا ، خاصة وأننا محصورين في كبسولة اسمها ” السجن ” مطوقة بالجدران العالية ومحاطة بالسجانين الحاملين السلاح و المدربين على حماية تلك الجدران ، بل حماية أنفسهم ووظيفتهم التي يمكن أن ينالوا منها عقابا شديدا في حالة هرب أي سجين .
كل سجان في الحلة وفي الرمادي ونقرة السلمان وفي كل مكان بالعالم ، تكمن في داخل عقله ، كل صبيحة يوم ، مشاغل رئيسية هي الأولى في واجباته وفي تفكيره ، وأعني بها المحافظة على السجن من أي اختراق . كل يوم نسمع عن إجراءات جديدة في التضييق علينا وعلى عائلاتنا التي تزورنا في مواعيد المواجهة . كما أن إجراءات تفتيش كل شيء يدخل السجن أو يخرج منه هي بازدياد ، بمعنى أن عيون السجانة تزداد يقظة مع كل خبر عن هرب سجناء من أي سجن في العراق أو في أي مكان بالعالم . وقد كان لهرب 5 شيوعيين من سجن نقرة السلمان ( الشيوعي القيادي سليم إسماعيل والشيوعي القيادي كاظم فرهود وثلاثة من رفاقهم ) اثر كبير على تشديد الرقابة على الشيوعيين المسجونين في الحلة . وقد كنا نشعر بتزايد رقابة السجن علينا ، كما كنا نعرف أن عيون إدارة السجن السرية داخل السجن تعتمد على عدد من السجناء المتعاونين معها والمندسين بين صفوفنا .
علينا أذن التركيز على كل شيء قد يسهل عملية هربنا من السجن مهما كان بسيطا في نظر بعضنا ، ومهما كان معقدا محيرا لنا ، خاصة ونحن الآن نريد البدء بالتنفيذ وسنكون بحاجة إلى إزالة كل غموض في أفكار العمل التنفيذي ، خاصة بعد اختيار فريق التنفيذ من عناصر كفاءة ينبغي عليها ابتداء من اليوم ان تكيف وجودها في ” الصيدلية ” بمنتهى السرية كما عليها أن تكيف وجودها في سياق العلاقة مع السجناء الآخرين وفق صيغ جديدة ونهج جديد .
اخبرني حافظ رسن ظهر اليوم انه حصل على موافقة نصيف الحجاج بالتفرغ من المهام الحزبية التنظيمية داخل السجن مع بقاء مهامه في الواجبات السجنية الروتينية. كان حافظ يعمل بالمطبخ طباخا مع مجموعة الشوربة مرة واحدة بالأسبوع كي لا يثير انتباه احد .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة