ضياء العزاوي: اهتمامي بالحرف جزء من قناعتي بأهمية الهوية

حاوره: خضير الزيدي

لا يمكن النظر لأهمية واستخدام الحروف العربية في طابعها الفني والجمالي من دون المرور بالفنان العراقي ضياء العزاوي فما تركه من بصمة أسلوبية ولمسات مؤثرة في الغالب من الفنانين الذين حملوا لواء التبشير بقيمة الخط والزخرفة والتلوين وقيمة الحروف وأبعادها الروحية والجمالية، كفيل بان يجعل المحاورة معه تعيدنا لذكريات المرحلة الأولى واهم الأسماء التي رافقته من الجيل الستيني يوم كان للحروف وطاقاتها كمحمول لهوية إسلامية وعربية اعتبار مهم في ذهنية الفنانين .العزاوي الذي خبر فن الرسم وتمثل في جوارحه ورؤيته يكشف لنا في هذا الحوار عن فهمه للحروف وكيفية التعامل معها ضمن أنساقها التعبيرية والجمالية.

  • اسمح لي أن أتساءل معك من حيث إصرارك على أن تكون بعض استخداماتك للحرف ذات طابع تجريدي بحت؟
    دعني اقل لك شيئا أراه مهما مبدئيا كان اهتمامي بالحرف كجزء من قناعتي بأهمية الهوية، إلا أنني أيضا لم أكن ميالا بأن يشكل الحرف القيمة الكلية للوحة، فأنا رسام أولا أرسم الحرف لا أخطه كما يفعل الخطاطون التقليديون ولذا ذهبت للتجريد لكي يتماهى التكوين الكلي مع الأجزاء الأخرى وهي الحروف، بهذا امتلكت حرية تطوير خبرتي بتكوينات تتبدل بفعل اللون وحركة واتجاهات الحرف او الكلمة، ولم أتردد بأن يتداخل الحرف مع أشكال تشخيصية ، وبعدها قادني ذلك لبناء أعمال ذات أبعاد ثلاثة هي اقرب لمنطق النحت البارز من اجل أبعاد الحرف عن محدودية تواجده وفي نفس الوقت إلغاء الصورة النمطية للمشاهد الأوروبي بإحالة أي عمل فني يستخدم الكلمة العربية إلى الجانب الحرفي المرتبط بالدين.

** طيب لكنك عالجت الحرف العربي ضمن ثلاثة صياغات الأولى الحرف مفردا لإظهار الجانب التجريدي فيه وفي الثانية الجملة الشعرية بأكملها مثلما حدث في مجموعتك المعلقات والثالثة الكلمة ..من أي منظار فكري تم لديك هذا التمرحل؟
لا أجد هناك فوارق فيما استهدفته، الصياغات الثلاث هي ابنة الخبرة التي اكتسبتها عبر السنوات وعلاقة هذه الخبرة بفعل الحوار مع ثقافة الآخر. ما حاولته منذ منتصف السبعينيات خلق تجربة يتداخل فيها الحرف بشكله التجريدي أو النص المقروء مع عناصر تشخيصية متنوعة، هذا التداخل قادني لاختبار تطوير ما بدأت التعرف عليه منذ قدومي إلى لندن وهي المخطوطات العربية المرسومة، كان تجربة محرضة بكل معنى الكلمة لم تكن رسوم الواسطي الشائعة عندنا الا جزءا من مسار إبداعي لا يمكن تجاهله وتركه ضمن رفوف المكتبات للمختصين في الدراسات الإسلامية والعربية. من هنا بدأت أزاوج بين هذه التركة التاريخية وبين ما تعرفت عليه من أعمال الفنانين الفرنسيين، وخاصة كتاب (الجاز) لماتيس ومحاولات دفيد هوكني بمجموعته المعروفة ( الكيتار الأزرق ) إلى جانب أعمال فنانين آخرين ممن أقاموا شراكة إبداعية مع الشعراء.وقد انعكست هذه المزاوجة على سبعة أعمال ورقية لمختارات شعر للمتنبي عام ١٩٧٧ ونشرتها في مجلة آفاق عربية فيها استفادة من مفهوم المخطوطة وهي التي قادتني في السنة التالية لإنجاز ثلاثة عشر عملا ورقيا للمعلقات السبع ثم اخترت منها سبة أعمال مع المقدمة لطبعها بالسلك سكرين

**كيف حددت موقفكم إزاء المعطيات الشكلية والتنظيرية فيما يخص مرحلة جماعة البعد الواحد من خلال التأسيس لها والنشاط فيها وتحديدا من خلال عملك الفني واستلهامك للحرف العربي ..؟
البعد الواحد بدأ بدعوة من جميل حمودي، كنا عبد الرحمن الكيلاني، شاكر حسن، رافع الناصري وصاحب الدعوة وأنا، كان الموضوع هو في تنظيم معرض للفنانين المعنيين بالحرف العربي لا غير وبموجبه توزعت المهمات، كلّفت شخصيا تهيئة الجانب الوثائقي وأوكلت لشاكر مهمة الإشراف على الكاتلوك. ما حدث عندما جاء الافتتاح إن الكاتلوك تم إنجازه كليا من منطلق شخصي بحت لم يستشر أحدا لا بالمادة الداخلية ولا بأسماء من فاتحهم من الفنانين ، استغل شاكر هذه المناسبة بان وضع اسمه على غلاف الكتاب وجعل من مقالته تتصدر الكاتلوك منشورة بخط يده بينما نشر المقالات الأخرى بالحرف الطباعي الاعتيادي، إضافة لذلك استخدم ما استطاع بوضع نصوص صوفية بعضها لا علاقة لها بالمشروع نفسه، وذهب بعيدا بخياله الافتراضي أن يكون تمثال جيكومتي متماهيا مع حرف الألف أو لوحة هارتنك تماهيا مع حركة الحرف العربي، بهذه المحاولة أراد شاكر أن يلبس الجميع رداءه بكل افتراضاته المتناقضة مع قناعاتي الشخصية فأنا لست من المؤمنين بأسبقية النظرية على العمل الفني وليس لدي يقين في أن تداخل الحرف العربي مع التكوين الفني لوحده يعطي العمل الفني هويته العربية مهما كان نجاح العمل ومهما كان هناك من افتراضات ذات علاقة بالوهم التاريخي.

  • هل تقاطعت معهم اقصد شاكر حسن وجميل حمودي ومديحة عمر هل ثمة تآلف في الأفكار جمعتك معهم؟
    لم أتعرف على مديحة عمر ولم التقِ فكريا مع شاكر أو جميل ، فالثاني لم تشكل تجربته تحريضا فعليا بالنسبة لي اما شاكر فله تاريخ إبداعي هائل منذ الخمسينيات وقد كان الأهم ضمن جماعة بغداد بعد جواد ولربما لوفاة جواد أثر كبير على انطفاء جماعة بغداد، على الرغم من محاولة شاكر إعادة الحياة لها فيما بعد بإصدار بيان جديد مع المعرض الجماعي الذي أقيم عام ١٩٧٥. لم تتمكن جماعة بغداد من العودة لتأكيد ماضيها الإبداعي، وكذلك لم تحقق جماعة البعد الواحد بما كان يأمله شاكر، لذا ظل مبدعا لمفرده وهو ما لم يميل إليه. لم أكن على قناعة بإحالاته الصوفية على العمل الفني ولا بمرجعية مجموعة الأعمال التي تعامل بها مع الجدار، والتي عندما اختبرت عالميا من خلال مشاركته بمعرض الإشارات الذي نظمه معهد العالم العربي في باريس لم يكن النقاد رحماء معه، إلا أن ذلك لا يقلل من قيمة إسهامه الفعّال في التاريخ الفني العراقي وبشكل الذي لن يضاهيه أحد.

** بودي أن أسالك هل يوجد فن عربي يمتلك خصائص معينة لا بالمعنى الجغرافي ولا بالمعنى الجمعي؟
ما حاوله رواد الحداثة عربيا منذ الخمسينيات من طرح للهوية كأسلوب كانت له علاقة ما بالتحولات السياسية وانعكاساتها على النزعة الوطنية التي وضعت نصب عينيها التخلص من ثقافة الاستعمار. وضمن هذا المسعى تمكنت بعض الأسماء من خلق تجربة لها مراجع أوربية بشكل من الأشكال متداخلة مع الحضارات القديمة والموروث الشعبي، إلا أنها ظلت إنجازات قطرية حيث لم تتوفر الظروف لاختبارها على الصعيد العربي عبر المعارض المشتركة ، ولربما لو أن تجربة معرض السنتين العربي الاول الذي أقيم في بغداد بمهنية عالية قد استمر لكان بالإمكان إيجاد عناصر مشتركة قابلة للتطور خارج البحث القطري، اما البحث الحروفي بشكل خاص والذي انتشر بشكل واسع خالطا ما بين التنفيذ الكرافيكي ذات العلاقة بحرفة الخطاط وبين المسعى الذي حاوله بعض الرسامين في إخضاع هذه العناصر لمفهوم اللوحة ومتطلباتها، ومع تحول ( الحروفية ) إلى نزعة شائعة عربيا أوجدت بسببها نوعا من القبول بعروبة اللوحة عبر تواجد التركيبات الحروفية.

  • ما المشكلة في ذلك ؟
    هذه النزعة أشاعت نوعا من السهولة في الأحكام النقدية كما أقامت علاقة ما بالسوق بعيدا عن المواجهة الإبداعية المطلوبة ، وعندما اختبرت عالميا واجهت هذه التجربة إشكالا واضحا حيث وجدنا مساهمات من ايران، باكستان وماليزيا، هنا بدأ السؤال إن كانت هذه التجربة عربية أم إسلامية؟ من هنا يمكنني القول ليس هناك ما يمكن تسميته بتجربة عربية على الصعيد الجمعي، إلا أننا وجدنا ومنذ التسعينيات ملامح نزعة البحث الفردي وبمرور بضعة سنوات أصبح تفرد الفنان توجها بديلا للهوية بمعناها القديم فيما يقدمه من بحث جمالي منفتح على الثقافات الأخرى
  • وهذا ما نرصده اليوم؟
    نعم وهو ما نجده الآن وبوضوح في أعمال أسماء عربية فاعلة في المشهد الفني عالميا حيث نجد بعض الملامح لمرجعية عربية شخصية. وهذا ما ينطبق على المشهد الفني عالميا من بكين الى نيويورك، مع بعض الاختلاف فيما نجده في الفن الهندي من غلبة للنزعة الإثنية مع استثناء لبعض أعمال الفنانين الشباب الذين أخذوا طريق الفنانين الصينيين بالعمل على خلق ثيمة معاصرة ذات علاقة مباشرة باليومي واعتمادها عنصرا أساسيا يتبدل ويتطور بتبدل الموضوع. من هنا نتساءل ان كانت أعمال الفنان الهندي كوبتى أو أنيش كابور مثلا مدرسة هندية أو النحاتة الكولومبية دوريس سلسيدو أو الفنان رافايل كومزباروس مدرسة كولومبية وهذا التساؤل يصح على العديد من الفنانين في انحاء العالم.

** دعني أعود لفنك ماذا لو قيل عنك بأنك وضعت لمسات فن شرقي وخاصة فيما جاء من أعمال الحروف وبث طاقتها الجمالية ؟
هذا سؤال يمكن أن يجيب عنه ناقد فني متابع بحق لأعمالي، شخصيا لا اعتقد بذلك لان جل ما حاولته لم يكن خلق مواصفات فنية معينة بمقدار بناء نوع من الاختلاف الشخصي وإن حصل ان كانت هناك إشارة لمراجع ثقافية أو شكلية (كالحرف) فإنما هو تحصين لهذا الاختلاف بأبعاد ثقافية وجمالية ذات أبعاد تاريخية مختلفة.

** حسنا احتاج إلى مقارنة أسلوبية تضعها لي لمعرفة الفرق بين ما أنجزه رافع الناصري مع طاقة الحروف وما عملت عليه ..ما المختلف جماليا بينكما ؟
ظل رافع منذ بداية تعرفه على قيمة الحرف العربي مخلصا للموروث التجريدي فيه، قلما أعطى الحرف معنى ما وبمقدار ما تنوع في استخدام الحرف اختزالا أو انحيازا لقيمة تكوينه فتحت أمامه نوافذ غاية في التنوع كان قادرا على تفكيكها ثم إعادتها بأشكال مغايرة وجديدة، ففي بعض الأعمال شكلّت القيمة اللونية جزءا ذات تضادات تنفصل عن انحناءات الحرف وشكله وفي أعمال أخرى يذهب إلى تجريد لوني مع مساحات بيضاء لها أهمية اللون كحضور تكويني بينما يأخذ الحرف أداة الجمع بين هذه التكوينات. وفي في سنواته الأخيرة اهتم بالحرف ببعده الكلاسيكي، وبمقدار ما تحولت الجملة المقروءة بمنزلة كولاج يضيف لبناء العمل ذات العناصر التجريدية صوتا بفعل سهولة القراءة بمقدار ما جعل اللوحة من اللوحة ذات طابع مشهدي.

** تقول ذات طابع مشهدي ؟
نعم ذات طابع مشهدي يثير الفضول ويحرض على العودة لمعاينتها. بالنسبة لي هو انتساب لم يتحدد بالحرف بل هو نوع من المزاوجة بين بحث عن الذاكرة الجمعية ومراجعها المختلفة في الحضارات القديمة والفن الشعبي وبين الميل الى موضوعات ميثولوجية حينا ويومية حينا آخر، هذا التوجه جعلني بعيدا عن الالتزام الكلي بهذا البحث، اذ غالبا ما تداخلت تركيبات متنوعة من الحروف مع عناصر تشخيصية، مما جعل من الحرف تكوينا جانبيا قيمته الجمالية هو في علاقته مع هذه العناصر وبمرور الوقت وبسبب ما توفرت لي من ظروف للاطلاع على التجارب العالمية وما طرحته من أفكار فيما يتعلق بالهوية ومدى العلاقة الثقافية والفنية مع الآخر بدت لي هذه التجربة بحثا لم يعد يقدم لي الكثير.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة