عن نقاد القطيعة بين الأدب والفن

أسعد عرابي*

من الطبيعي أن يتفوق الفنانون الممارسون للغة الخط واللون على النقاد (رغم تباين درجاتهم في الشطح المجازي والرمزي) في ميدان الكتابة التشكيلية. هم يعالجون مادتهم المعاشة، ومصادفاتها وخبراتها المتراكمة وتواصلها مع مختبرات نماذجهم الأثيرة من الرواد والمحدثين. لوحتهم هي مرآتهم التي تعكس مجاهداتهم ومعاريجهم في كمونات سلوك الفرشاة ومأزومية العجائن الصباغية، وكأن طوبوغرافية تكويناتهم لا يمكن أن تكون مواقع عناصرها إلا كما هي عليه. فتقاليد الكتابة عن الفن أسسها الفنانون منذ فاساري (عصر النهضة الإيطالي في القرن الخامس والسادس عشر) وحتى مؤسس الكتابة الفنية المعاصرة بول سينياك في الفترة ما بعد الانطباعية مع استهلالات القرن العشرين وبالذات في كتابه الشائع: «من دولاكروا وحتى ما بعد الانطباعية»، ثم أخذ الفنانون يبوحون كيف تكون اللوحة مشروعاً فكرياً نخبوياً، حتى تفوقت أعداد كتب فكتور فازاريللي على عدد لوحاته (التي كان لمساعديه الشراكة الحاسمة في الإنجاز). وهكذا تأسس تيار الفن البصري الأوبتيك – سينيتيك. هذا هو شأن مؤسس تيار البرفورمانس إيف كلين، أي الأداء الفني لمرة واحدة بحضور الجمهور، يحيي سهراته بتبصيم أجساد عارياته الملطخة بحمامات اللون النيلي (الأنديكو)، يدعو في أحد معارضه الزوار دون لوحات، مدعياً بأن وجوده الفكري أهم من مادة اللوحة. هكذا كانت دادائية تيار المفاهيمية تتفوق فيه الفكرة النظرية أو الحالة الوجودية التأملية على الوسائط التشكيلية المألوفة، يتمدد الفنان أوبنهايم عام ١٩٧٠م في سعير الشمس واصفاً كتاباً رحباً على صدره لساعات ثم يعرض صورة صدره العاري وقد رسمت عليه آثار الكتاب ووشمه البرونزي.

«تراجع سلطة النقد الأدبي هو نتيجة طبيعية لفشل الأدباء في التقارب مع الحساسية التشكيلية»
تترسخ إذاً حداثات وسائط ما بعد الحداثة من خلال أفضلية الفكر على الفعل التشكيلي. يسترد بذلك الفنان حقه في الإفصاح عن مكنونات مشروعه الإبداعي. وتتعقد بنفس السياق متاهات كتابات النقاد، المتعثرة في التعميم الأدبي. كان لي ذات مرة فرصة معالجة موضوع الموت لدى الفنانين (بدعوة رئيسة قسم الفلسفة رشيده تريكي في الجامعة التونسية)، أسهبت في تفاصيل انتحار النماذج الرائدة في تاريخ الفن ما بين فان جوخ ونيكولا دوستائيل، وتساءلت في النهاية لماذا لم نسمع ولا مرة واحدة بانتحار ناقد فني معروف؟ لا شك بأن الإجابة البديهية على هذه المفارقة أن الأول يعيش وجدانية لوحته وأحياناً وجوديتها العدمية وكثيراً ما يصل مع كل محطّة إلى الوجد (أي الكافاليا أو النيرفانا). في حين أن الناقد يعلّق على التجربة بمادة أدبية محايدة تتناقض مع طبيعتها المأزومة الانتحارية. قد يسألني ناقد كيف نكتب إذاً بدون عدة كتابة أدبية؟ أقول له وهنا الطامة الكبرى، فاللغة التواصلية ليست حكراً على الأدب، للتصوير لغته وللموسيقى لغتها وكذلك العمارة. إن أقرب الكتابات المتوازية مع الفنون هي الفلسفة ومناهجها، أي «علم الجمال»، خاصة في مناهجه الحديثة على غرار «علم الجمال المقارن» لدى إيتين سوريو في نهاية القرن التاسع عشر. يطبق البعض منهج الفيلسوف الألماني هوسير في ميتافيزيقية «الفينومينولوجي»، (تترجم خطأً بالظاهراتية) وتعني شرحاً بالاقتصار على المقارنة بنفس الأنساق النوعية، فالفاكهة لا تقارن بالخضرة، ولكن أيضاً لا تقارن التفاحة الكروية بثمرة الموز الأنبوبية الشكل. علينا عند المقارنة أن نجريها بين نماذج جنس معين من التفاح. هو ما ينطبق على تقويم علم الجمال لهذه التيارات الفنية، كلما عبرنا إلى واحد منها تغير قياس التحليل. فعلم الجمال يُعنى بالتحليل والتركيب، وليس بعرض التقويمات المزاجية أو النصائح النقدية أو الانتقادية.

الفنانون التربويون وريادة الحداثة
لعلّه من نافل القول استدراك أن استهلالات القرن العشرين تشهد تملص التشكيليين النهائي من ربقة النقد (خاصة الرومانسي) مع رواد عالميين مقيمين في ألمانيا على مثال واسيلي كاندينسكي (١٨٦٦-١٩٤٤م) المهاجر الروسي من الدهمائية البلشفية، الذي بادر قبل ذلك عام ١٩٠٨ إلى اكتشاف التجريد من قلب لوحة مائية بالصدفة، أعقبها ١٩١٠م تأليف كتابه الانعطافي: «ما هو روحاني في الفن المعاصر»، يؤكد فيه أن البعد الروحي في اللوحة يزداد وجداً مع تواصل بنائها مع النواظم الموسيقية، ثم يضع توأمه الألماني الصوفي الموسيقي – المصوّر بول كلي كتابه: «النقطة والخط والدائرة» متعقباً تواصل اللوحة مع الإيقاعات الكونية الشمولية (خاصة في حالة تصوير الأطفال)، قبل أن يستغرق في روحانية الفن الإسلامي بعد زيارته لقرطاجة واكتشافه لميتافيزيقية الألوان المشكاتية المتقابلة، ويعلن أنه يحس لأول مرة بأنه «مصوّر».
إذا قفزنا إلى عام ١٩٢٣م تاريخ تأسيس مدرسة الباوهاوس في وايمر من قبل المعماري غروبيوس، نجد أنه اختار مدرسيه من الفنانين الممارسين. لن نعثر على ناقد فني واحد في التدريس النظري، كاندينسكي (فريسك)، بول كلي (الزجاج المعشق)، شلايمر (سينوغرافيا) ثم موندريان (للتكوينات الهندسية) وأيتين وموهولي ناجي، ومن جنسيات متباعدة، وإذا تأملنا تيارات الحداثة في روسيا وجدناها مبادرات فنانين مثل مالفيتش (التصعيدية) ولاريونوف (الإشعاعية). وإذا راجعنا مع التوأم كاندينسكي وكلي «جماعة الفارس الأزرق» وجدنا دعمهما للتجريدي الفرنسي روبير دولوني بدعوته مرات عديدة للعرض مثله مثل كوبكا.. إن تراجع سلطة النقد الأدبي هو نتيجة طبيعية لفشل الأدباء في التقارب مع الحساسية التشكيلية على مثال فضيحة رواية إميل زولا التي تسخر من صديقه بول سيزان. لكن هذا لا ينفي توأمية الندرة من العباقرة وتعدديتهم الإبداعية بين الكلمة واللون على رأسهم فكتور هوجو، أو شعرية بعض المصورين مثل مصنفات ماكس إرنست السوريالية.
أفضت هذه المخاضات في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية إلى تحول النقد إلى تأريخ الفن المعاصر على غرار الإنكليزي هربرت ريد، بل وإلى نقاد متنورين مثل الروائي أندريه مالرو (وزير الثقافة في عهد شارل ديغول) الذي صدر له كتابان نقديان انعطافيان: «جمهورية الصمت» و«المتحف الخيالي» وكان وراء شهرة بيكاسو وجياكوميتي، ثم بيير ريستاني الذي قاد في الستينات جماعة «الواقعية الجديدة» الفرنسية، محققاً أول تبادل تصالحي في معارضه مع مدرسة نيويورك.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة