لقد اشرنا في مقال سابق الى المنحى الخطير الذي اتخذه تطور الاحداث في المنطقة، بعد الهجوم الصاروخي الذي تعرضت له مصافي شركة ارامكو السعودية، ذلك العمل الخطير الذي عكس درجة الالم والمعاناة الايرانية بسبب من دائرة الحصار التي اشتدت في الأشهر الاخيرة. مشاكل وتحديات لم تعرفها ايران من قبل، وهذا ما اعترف به قادتها الحاليين بما في ذلك مرشد الجمهورية الاسلامية (السيد علي الخامنئي) أدت مؤخراً الى اندلاع احتجاجات واسعة شاركت فيها قطاعات شعبية مختلفة تنديداً بسياسات وقرارات الحكومة الاخيرة، أطلقت شرارتها قرارات رفع سعر البنزين. سرعة اندلاع الاحتجاجات والرقعة الجغرافية الواسعة التي امتدت اليها، اوصلت رسالة واضحة لحكام طهران حول نوع ردود الافعال التي ستواجهها في المستقبل القريب، ان واصلت الحكومة الايرانية مثل هذه الحلول في التعاطي مع تداعيات الحصار المستقبلية. لقد فرطت طهران بالكثير من الوقت والفرص لتغيير مسار الاحداث، وهي اليوم تقف امام العواقب الوخيمة للسياسات والشعارات الدوغمائية التي اصر الجناج المتشدد والمهيمن على مفاصل القرار فيها، على انتهاجها في الداخل (قمع الحريات) وفي الخارج (تصدير الثورة).
لقد افصحت كلمة المرشد حول الاحتجاجات والتي حددها بوصفها مشكلة أمنية، عن نوع الخيارات والسبل المحددة سلفا للتعاطي مع تداعيات الازمة الراهنة. وهي حلول تنسجم وطبيعة النظام الحالي (السلطة المطلقة للفقيه) وحربه المعلنة ضد كل أشكال التعددية والحداثة والحريات. مثل هذا الفهم الضيق والمحدود لما يواجه ايران بعد مرور اكثر من اربعة عقود على آخر ثورة شعبية عرفها القرن العشرين (1979-2019) ينبع من طبيعته العقائدية والشمولية، والتي لا تملك امام مثل تلك الاحتجاجات سوى الحلول الامنية والقمعية، لكنها لن تفضي في نهاية المطاف لغير مفاقمة الازمة ودفعها الى ما لا تحمد عقباه. من يملك شيئا من المعرفة والاهتمام بالشان الايراني، يعرف جيدا الطبيعة البراغماتية لغالبية المجتمع الايراني، والتي تجعلهم على خلاف واضح مع سياسات النظام المغامرة والطائشة، لا سيما في مجال التدخل بشؤون ومصائر البلدان الاخرى، وهذا ما تضمنته شعاراتهم ومنها (لا غزة ولا لبنان روحي فداء لايران) وغير ذلك من هتافات تدعو لعدم هدر واستنزاف طاقات ايران خلف شعارات انتهت صلاحيتها منذ زمن بعيد.
ان فشل وعجز ما يعرف بـ “التيار الاصلاحي وواجهاته” التي فاز بعدة دورات انتخابية، آخرها دورتي الرئيس روحاني؛ عن اصلاح وتقويم ذلك النظام السياسي، يضع غالبية الايرانيين أمام خيارات اخرى لا يعولون فيها على تلك القوى والسبل التقليدية لتغيير ما انحدروا اليه من حال واحوال. كما ان اصرار قوى النظام على اعتماد الحل الامني كوسيلة وحيدة لمجابهة التحديات الجديدة، سيدفعها الى اعتماد سبل ووسائل اخرى لتوسيع وتطوير احتجاجاتها. ومن الاهمية بمكان الاشارة الى ان تصريحات المسؤولين الايرانيين لم تخف حقيقة ما ينتظرهم جراء استمرار واشتداد حلقة الحصار، التي ستستمر طويلاً وفقاً لتصريحاتهم الاخيرة. وهذا يعني المزيد من المعاناة والتدهور السريع لشروط حياة الملايين من الايرانيين، تحت ذريعة مقاومة الحصار والاستكبار العالمي وغير ذلك من حطام السرديات العقائدية البائسة. لقد أوصلت الاحتجاجات الاخيرة لحكام طهران رسالة واضحة، تتضمن نوع ردود الافعال المستقبلية تجاه منهج المقاومة والاصرار على عدم الاصغاء لرأي وارادة الملايين من الايرانيين الذين لم ولن يشاركوهم في قناعاتهم وعقائدهم التي الحقت أفدح الاضرار بحاضر ومستقبل البلاد والعباد..
جمال جصاني