رحلة استذكار..
بغداد – الصباح الجديد:
يرحل الفارس ويترك وراءه غبار الذكريات تتناثر بين سنابك فرسه الجامح ويبقى من وراءه يبكيه ويبكي ما يرحل معه من الق ورفعة، هذا هو حال الفرسان المبدعين في هذا العالم الساحر الذي ندعوه المسرح العراقي، وفارسنا هو الراحل خليل الرفاعي، ابو فارس، الموهبة الشعبية العفوية نستحضر ذكرياته وتألقه وابداعه وطيبته، ننتزعها من جدار النسيان، هذا العملاق واسمحو لي ان ادعوه بالعملاق يمثل حالة متفردة في الفن العراقي عامة والمسرحي خاصة فالرجل الذي احتضن تاريخه الفني الذي امتد ل(60) عاما (85) مسرحية و(850) مسلسلا وتمثيلية اذاعية وتلفزيونية هو في نفس الوقت بسيط وطيب وكريم حد السذاجة في ميزان الانسانية، لم ينل شهادة فنية ولم يكن صاحب مدرسة فنية ولم يتصدر المهرجانات والاحتفال او يتبجح بتاريخ فني او سياسي ولم يبهره بريق الكراسي لكنه جمع الفلكلور وحب التمثيل والموهبة الفطرية والحس الشعبي والذهنية المتوقدة ومحبة الناس وتعلق الاطفال في شهادة واحدة طوقته كعقد من اللازورد طيلة سنوات عطاءه وهويتنقل بين المسرح والتلفزيون والاذاعة، ماميز الرفاعي انه كان امينا على عمله، حريصا على الاخذ بنظريات التمثيل دون ان يتعلمها في معهد او كلية وقد قدر لي ان اعمل معه في مسرحية (عقدة حمار) عام 1992 في مسرح المنصور وهي من تأليف الكاتب الكبير عادل كاظم واخراج الراحل الدكتور فاضل خليل وكنت اعمل في الادارة المسرحية حيث كنت اشاهده وهو يتلبس الصمت مع استاذنا الراحل جعفر السعدي في ظلمة الليل وهما يحتويان التقمص قبل رفع الستارة يوميا مجسدان مفاهيم المخرج الروسي الكبير قسطنطين ستانسلافسكي في فن التمثيل.
ولد خليل حمدي او خليل الرفاعي عام 1927 في منطقة راس الجسرفي كرخ بغداد وظهرت موهبته وولعه بفن التمثيل منذ بواكير صباه وسنين الدراسة الاولى حيث قدم مسرحية (الطبيب) في المرحلة الابتدائية و(زقزوق) في ثانوية الكرخ وكان اول احترافه فن التمثيل في مسرحية (وحيدة) لمؤلفها موسى الشابندر عام 1945، التحق بالاذاعة العراقية عام 1946وعاصر تلفزيون العراق منذ تأسيسه عام 1956 عندما كانت محطة البث عبارة عن (بنكلة) بسيطة وساهم في اغناء تلفزيون العراق تأليفا وتمثيلا كما كان من الرعيل الاول الذي وضع لبنة الفرقة القومية للتمثيل عند تأسيسها عام 1968 .
عمل مع فرق المسرح الحديث والرسالة كما اسس فرقة مسرح بغداد ومن اشهر اعماله المسرحية (الطوفان) و(البيك والسايق) من اخراج الراحل ابراهيم جلال و(المجنون) لسليم الجزائري مخرجا و(الشريعة) التي كتبها الراحل يوسف العاني واخرجها الراحل فاضل خليل ، اما على صعيد التلفاز فبدأ مشواره بتمثيلية (سلفة زواج) حيث اسند مخرجها الراحل خليل شوقي له دور سلمان، توالت بعدها اعماله التلفازية ومن اشهرها (مغامرات زعتر) و(الكهوة البغدادية) و(الكراسي) و(تحت موس الحلاق)، تعلم العزف على آلة العود عام 1942 كما تعلم كتابة النوتة بالاضافة لتمتعه بصوت غنائي شجي استعان به في الكثير من اعماله .
عام 1946 تقدم للقبول في معهد الفنون الجميلة وكان يرغب بدراسة التمثيل لكن اسمه ظهر في قسم العود الشرقي، وبالاضافة لملكته الفنية فانه كان رياضيا بارزا وكان لامعا في العاب كرة القدم والسلة والطائرة.
عام 1958 حضر الى بغداد منتج بريطاني وعندما شاهد خليل الرفاعي والمرحوم كامل القيسي في تمثيلية تلفزيونية اختارهما للعمل في الفيلم الشهير (لورنس العرب) وحدد يوم الرابع عشر من تموز لنفس العام موعدا لتوقيع العقد لكن اندلاع ثورة 14 تموز جعلت المنتج الانكليزي يغادر العراق الى مصر، وخلال مسيرته الفنية الطويلة كان ميزانا للمحبة والتسامح فلم يتبجح بالنجومية ولم يفتعل المشاكل خلال العمل ولم يحتد او يطلب اجرا في كل اعماله اذ كان المخرجون والمنتجون يحددون اجره ويأتي الراتب الاول ليعرف الرفاعي مقدار راتبه.
حمل ريادة المسرح الجماهيري في مسرحية (الخيط والعصفور) لمؤلفها ومخرجها الفنان مقداد مسلم عام 1982 والتي مهدت لحقبة من تاريخ المسرح العراقي واثارت جدلا كبيرا بين مؤيد ومعارض، اما عالمه الاثير فكان عالم الاطفال فقد سخر الرفاعي مخيلته وفنه لاحتواء هذا العالم الذي لم يفارقه حتى مماته فكان سباقا لاعداد وتقديم برامج الاطفال والتي بدأها ببرنامج(ليش ابني ليش!!) ثم قدم برنامج (علي بابا) وتفرد بتشكيل اول فرقة خاصة بفن الطفل هي (فرقة مسرح السندباد للاطفال) وشاركه في تأسيسها رفيقه الباحث الموسيقي الراحل حسين قدوري مع الموهبة الغنائية الصغيرة آنذاك الهام احمد والمخرج الاذاعي ضرغام فاضل، ثم اعاد تشكيل هذه الفرقة عام 1999 وكنت انا احد اعضاء ادارتها بجانب استاذنا الكبير حسين قدوري والفنانة القديرة احلام عرب واستاذ الدمى الفنان الراحل عاصم الخيال وقدمنا من خلال هذه الفرقة احتفالية الاطفال على مسرح الرشيد في نفس العام ثم قدمنا اول مسرحية للدمى بعنوان (كلكامش) تأليف عاصم الخيال واخراج احلام عرب على قاعة الشعب عام 2000 عند مشاركتنا في مهرجان مسرح الطفل الذي اقامته لجنة المسرح العراقي آنذاك. رحل ابو فارس بعد ان توقفت كليتاه عن ضخ الدم لجسده المتعب بعد ان قضى جل حياته يضخ الحنان والمحبة للآخرين وهو يستحق وقفة اجلال لرجل قل نظيره في وسطنا الفني وندعو الله ان يمنح روحه الطمأنينة والرحمة.