روما ـ موسى الخميسي:
تستضيف الصالات الاثرية العريقة في «قصر فيتيليتشي» في مدينة تاركوينيا، وقلعة «روسبولي» الاثرية في مدينة تشيفتري، في مقاطعة لاتسيو -معرضين كبيرين للفن الاتروسكي، يستمران حتى 31 من هذا الشهر، حيث تعرض قطع فنية نادرة، لاول مرة، تبرز موهبتهم الفريدة والمتطورة في مجال الانتاج المعدني والنسيجي اذ كانوا سادة الشغل اليدوي.
وتعد مدينتي جيرفيتيري وتاركوينيا تاريخيا، من أبرز المدن التي عاش فيها الاتروسكيين حيث تم اكتشاف الكثير من الاثار الخاصة بهم والأدلة الكتابية المتراكمة على مر القرون في كلتا المدينتين. وبفضل هذه الخصوصية اندرجت مقبرة تشيفتري وتاركوينيا تحت حماية اليونسكو، التي أدرجتها قبل 15 عامًا في قائمة التراث الثقافي للإنسانية.
إضافة إلى معرض الحرف اليدوية الأتروسكية، الذي يسلط الضوء على الجودة العالية والحرفية الفائقة للحرفيين في إنتاجهم المعدني والمنسوجات، تم تنظيم فعاليات مرافقة للمعرضين، تشمل العروض المسرحية والمعارض التشكيلية، والحفلات الموسيقية، بمناسبة مرور 15 عامًا على حماية اليونسكو وتساعد على معرفة المزيد عن آثار المدينتين ومتاحفها.
الحضارة الإتروسكانية، الاسم الحديث لحضارة عاشت في إيطاليا القديمة في منطقة توسكانا الحالية (عاصمتها الاقليمية مدينة فلورنسا) ومقاطعة اللاسيو (عاصمتها الاقليمية مدينة روما) وأطلق عليهم الرومان القدماء اسم إتروسكي.
تطورت الثقافة الأتروسكية في إيطاليا بعد حوالي 800 ق.م على أنقاض الثقافة الفيلانوفية من العصر الحديدي. تنحت هذه الأخيرة في القرن السابع الميلادي لثقافة تأثرت بالتجار اليونانيين والجيران في ماجنا غراسيا، وهي الحضارة الهيلينية في جنوب إيطاليا، بعد عام 500 قبل الميلاد انتقل القرار السياسي لإيطاليا إلى يدي الأتروسكيين.
الإيطالي يصف الاتروسكيون
بانهم من المريخ
شهدت السنوات العشرة الاخيرة، العديد من الدراسات ومعارض وندوات حضرها العديد من علماء الآثار من كل ارجاء العالم لتسليط الضوء على غموض اصول الشعب الاتروسكي وحضارته العظيمة، والتي مثلت واحدة من اولى الحضارات على الارض الايطالية. تمخضت في عقد التسعينات من القرن الماضي عن نتائج حاسمة ومهمة، وسلطت الانوار على أقدم وادهش حضارة صاحبها الغمور والنسيان، وظلت مغلفة بطلاسمها ولغتها حتى سنوات قريبة، بعد ان عاشت قبل أكثر من الفي سنة على شبه الجزيرة الايطالية ولفترة امتدت أكثر من عشرة قرون. في اغلب الاحيان يعد الايطالي المعاصر الاتروسكيون وكأنهم مخلوقات من المريخ بسبب قلة المعلومات والدراسات، وبسبب الغموض الذي احاط بأصلهم ولغتهم ومنبع مجيئهم الى الارض الايطالية.
والدراسات الاخيرة تؤكد على ان اولى هجراتهم جاءت من آسيا الوسطى، وبالذات من بلاد الرافدين واصولهم سومرية ويعود تاريخ نشوئهم الى منتصف العصر الحديدي. وقد استطاعوا التعبير عن ثقافة اصيلة خاصة بهم وتركوا اثرا محددا في الانتقال من عصر ما قبل التاريخ الى التاريخ. يكشف لنا الدارسون عن الاستمرارية التاريخية التي تربط المرحلة الاخيرة من وجودهم والتي تمتد أكثر من 1000 سنة قبل الميلاد بزمن نشوء مدينة روما. وتتحدث الاساطير الرومانية عن المعارك التي دارت بين الجيوش الاتروسكية والهجمات المتكررة على روما.
وقد عرف الاتروسكيون بناء المدن الانموذجية على شكل (بولس) اي المدينة الاغريقية وذلك من خلال رحلاتهم البحرية في مناطق الكولينا الايطالية الجنوبية التي كانت تابعة للاغريق. كما تؤكد الدراسات على الميزات الارستقراطية في الحياة الاجتماعية. والان ترفض كل الطروحات التي شاعت فترة طويلة من الزمن بانهم قد اختفوا بنحو مفاجىء، اذ تؤكد النظريات الجديدة على ان اسباب اختفائهم تعود الى التوسع الكبير لوسائل الاتصالات الداخلية وتعزز مواقع القوة، وتطور مراقبة التجارة البحرية، نحو الشمال وروما التي مثلت المركز، ونحو الجنوب حيث المستعمرات الاغريقية مما اضطر الاتروسكيين الى الاستسلام بعد ان زادت حدة الصراع ما بينهم وبين الاقوام الجديدة مثل الاسنيين واللاتين والمارسيين وغيرهم، وظلوا ملاحقين بالعبودية والحروب الدموية، فتداخلوا بالأزمنة الجديدة، فكانت بمنزلة الوسيلة لتشتيتهم بالاندماج بالحياة الاجتماعية الجديدة.
لقد بنت القرصنة والتجارة البحرية عظمة الاتروسكيين، الا ان توسع مدينة ( سيراقوصة) في جزيرة صقلية وخصومتها مع مدينة اثينا اليونانية عجل في انهيار ذلك المد التجاري والمهم، ورسم بذلك بداية الاندحار الحلزوني من دون رجعة، ولم ينفع الاتروسكيين تحالفاتهم مع القرطاجيين ولابحثهم لايجاد منفذ تجاري عن طريق البحر الادرياتيكي، فقد اغلق عليهم شعب( الجيلتيون) من الشمال وحاصرتهم روما التي احكمت بسيطرتها على نهر التيفر، وهو الطريق الحيوي للاتصالات داخل ايطاليا القديمة مما اجبرهم على الموت اختناقا. ان مدينة(تشيفتري) الموجودة على التلال الشمالية في مدينة روما هي احدى أبرز المعالم الحضارية التي بامكانها ان تقود المشاهد الى معرفة ذلك الظل الحضاري العظيم، وقدرة هذا الشعب الذي لو كانت قد اتيحت له ظروف اخرى لانتشل من روما العظيمة هيمنتها الايطالية. ان مقاطعتهم الصغيرة لم تكن متحدة، وغالبا ما كانت في صراع دائم فيما بينها، مما سهل على قوم (اللاتين) فرض سيطرتهم على الاماكن الاستراتيجية من نهر (التيفير) وبعد ذلك لم يتحمل هؤلاء وجود خصوم لهم على الضفاف المقابلة. لقد انتهى القرن الرابع قبل الميلاد من دون منتصرين او خاسرين من كل الاطراف، ودخلت روما في معاهدات وتحالفات مع العديد من المقاطعات الصغيرة التي كانت تحت سيطرة الاتروسكيين، الا ان تلك التحالفات كانت بمثابة الممهد الاساسي لالغاء الشخصية الاتروسكية التي انفصلت عن مجتمعها القديم وبدات تشعر بانها عاجزة ومنعزلة عن مواجهة سطوة الواقع الجديد، حيث كان القرن الاول قبل الميلاد شاهدا على نمط ايطالي جديد في الحياة اتحدت فيه اقوام وشعوب كثيرة كانت تعيش على شبه الجزيرة الايطالية.
العصر الذهبي لـ «الاتروسكيون»
في قرى منطقة (تركونيا) الخضراء التي شهدت العصر الذهبي للشعب الاتروسكي ما تزال الى زمننا هذا العديد من الرموز الحضارية المتقدمة التي تشهد على العلائق الانتاجية واساطير الخصب والاساطير التي تفسر احداثا تاريخية او طبيعية متمثلة بالمنحوتات والرسوم الجدارية التي تنتشر على جدران القبور التي اكتشفت مؤخرا والتي فتح قسم منها للزائرين والقسم الاخر مازال تحت الترميم والصيانة. منذ احقاب طويلة والعلماء يحاولون كشف النقاب عن لغز الرموز اللغوية لهذا الشعب، حتى استطاعت اخيرا مجموعة من علماء اللغات القديمة كشف هذا السر العظيم لهذا الشعب الحضاري، ولم تكن عملية البحث والترجمة امرا سهلا، فقد وقفت امامها عوائق عديدة خاصة فيما يتعلق باسماء اسياد وحكام ومدن وحقب.وقد اكتشفت ثلاث شيفرات هي عبارة عن الواح ذهبية مكتوبة باللغة الاتروسكية، ويعتقد بان هذه الالواح من الممكن ان تكون المفتاح الجديد لمعرفة لغة هذا الشعب، اذ يعتقد بان حروف هذه اللغة هي قريبة الى اللغة السومرية من جهة، والاشورية من جهة اخرى، الا ان المشكلة التي اعاقت العديد من الباحثين فيما مضى لحل رموز هذه اللغة هي عدم توفر نصوص طويلة كافية لغرض تشكيل اللغة، وتعدد لهجات القبائل المتعددة، كما ان تغيرات كبيرة طرأت على نظام الكتابة الاتروسكية، وهذا بالضبط مالم يحسب العلماء له حسابا في عمليات رصد اللغة، فعلى سبيل المثال كان الاتروسكيون القدماء يخلطون في اسماء العديد من الفواكه والمعاول الزراعية وادوات الزراعة والحدادة، وهذه الاخطاء اوقعت علماء الآثار اللغويين باخطاء كبيرة جعلتهم ولسنوات طويلة امام الغاز. وقد بحثت مجموعة من علماء الآثار عن نصوص متقاربة زمنيا وطويلة نسبيا، وبهذه الطريقة استطاعوا ان يجدوا الرموز المتشابهة والمترابطة من خلال النصوص.
تأثير الحضارات العراقية بالاتروسكيين
ويوجد العديد من الآثار الفنية تضمها صالات المعرضين الكبيرين، وتشمل التماثيل الصغيرة والكبيرة والمصوغات الذهبية بالغة الدقة في صنعتها، كذلك الصناديق الحجرية المنقوشة لدفن الموتى، وهناك شواهد حجرية منقوشة تبين جميعها التأثيرات السومرية والاشورية ، وهذه الآثار اضافة الى صناعاتهم الحديدية للاواني والاسلحة والتي كانت احدى الوسائل الكبيرة التي دعمت سلطتهم، تكشف لنا عن اساليب الحياة اليومية التي كانت متطورة وكذلك عن الواقع الطبقي في العلاقات الاجتماعية، كذلك تحكي لنا عن الاساطير والاعتقادات والمآسي والانكسارت التي حلت بهم. وتبين العديد من منحوتاتهم على سطوح الرليف الحجري، استخداماتهم في حقول معرفية كثيرة تتعلق بالولادة والموت والبعث ومعالجة الامراض والاوبئة، كما اشتهروا بالطب والمعرفة البيولوجية الدقيقة وكذلك اشتهروا في مستواهم العلمي وبكل ما يتعلق بالارقام، فهم كانوا علماء بالجبر والحسابات والمنجزات الفلكية الباهرة كتشخيص ظاهرتي الكسوف والخسوف، ومراقبة مجرى العديد من الكواكب والاجرام السماوية، وانجازات مرموقة في مجال التقويم السنوي. وتصور العديد من الجداريات الكبيرة المنقوشة وهي من اللوائح الحجرية الفخمة التي يبلغ طول بعضها أكثر من ثلاثة امتار، العديد من الكوارث الطبيعية والحروب والانتصارات وتاريخ واعمال وانجازات الاسياد، والاحتفالات الدينية، وتنصيب الرؤساء، وطرق واساليب استخداماتهم للسلاح. لقد تمكن البحث الآثاري والاثني في السنوات الاخيرة من تحقيق ثورة حقيقية في معرفة وفهم هذه الحضارة الهامة، فدارسو هذه الحضارة يدركون اليوم على سبيل المثال-ان المناطق التي احتلتها حضارة الاتروسكيون كانت بمثابة القاعدة التي هيأت لحضارات عظيمة أبرزها الحضارة الرومانية، وان الاتروسكيين كانت لهم صلاتهم وتداخلاتهم الاقتصادية والسياسية والايدويولوجية الضخمة مع شعوب مناطق آسيا الصغرى التي نزحوامنها.
كان على علماء آثار جامعة تورينو الإيطالية وإدارة الكنوز الأثرية في إتروريا الجنوبية انتظار إزاحة الحجر الذي يعلو منذ 2700 عام سرداب مقبرة دوغاناتشا في مدينة تاركوينيا، الذي يعود تاريخه إلى القرن السابع قبل الميلاد، للتأكد من أنهم أول من يصل هذا المكان. وعثر العلماء داخل المقبرة على الهيكل العظمي لأمير إتروسكي راقدا في قبره الحجري تحيط به الأسلحة والأواني التي خبأت في بعضها مجوهرات وأختام وسهم ورمح وغيرها من ممتلكات هذا النبيل الذي لا يُعرف كيف ومتى توفي بالضبط في عهد ملك روما تاركوينيوس بريسكوس.
ووصف البروفيسور آليسّاندرو ماندوليسي أستاذ علم الإتروسكيات والآثار الإيطالية في جامعة تورينو هذا الاكتشاف كونه «هاما للغاية حيث يعود العثور على آخر مقبرة لم تمسها يد إلى أكثر من ثلاثين عاما مضت، وبإمكانها منحنا المزيد من المفاجآت». ويعمل البروفيسور ماندوليسي وفريقه منذ سنوات في مقبرة دوغاناتشا، ولا يشكل العثور على قبر الأمير سوى أهم الاكتشافات التي تم التوصل إليها حتى الآن في هذا المكان الذي يمثل الملتقى بين عالمَي الأحياء والأموات.
وتتميّز فرادة هذه الرسوم الجدارية في أنها لا تصور مشاهد من العالم الآخر، بل مشاهد من الحياة اليومية، ما يدلل على أن هذا الفناء كان يقوم بوظيفة ساحة الملتقى بين الأحياء والأموات.