شكيب كاظم
أصدر مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى من مذكرات الحكيم جورج حبش سنة 2019، والتي حملت عنوان (صفحات من مسيرتي النضالية. مذكرات جورج حبش) حررها وقدم لها الدكتور سيف دعنا؛ أستاذ علم الاجتماع والدراسات الدولية في جامعة ويسكونسن بالولايات المتحدة الأمريكية، وكتب الحواشي موضحاً ومصوبا للنص.
هذه الصفحات والذكريات ما كان لها أن تظهر على الملأ، ولظلت ثاوية في تلافيف عقل الدكتور جورج حبش وذاكرته، لولا حث قرينته السيدة (هيلدا حبش) ومساعدته على كتابتها، ولولاها لخسرت الأدبيات السياسية فيضا من الحقائق والتوجهات والتوجيهات، ولأن المناضل حبش منشغل تماماً ولا فضلة وقت لديه للكتابة، فقد اتفقت معه في سنواته الأخيرة على تخصيص ساعة أسبوعياً، تتولى كتابة ما يمليه عليها، ومع أن المذكرات ليست وافية شافية، بسبب الظروف السياسية والتنظيمية التي عاشها الدكتور حبش منذ نعومة أظفاره، هو المولود في قضاء اللد سنة 1925 في أسرة ميسورة الحال، ودراسته الطب في الجامعة الأمريكية ببيروت سنة 1944، لكن الشاب الذي شهد ضياع جزء عزيز من وطنه فلسطين، استقطبه العمل السياسي، وهو الذي لم يجد في الأحزاب الناشطة وقتذاك ما يلبي طموحاته، فمن مهتم بالأممية وتارك الشأن الوطني، وآخر مهتم بجزء من الوطن العربي، وثالث وإن دعا إلى القومية، لكن ليست لديه توجهات كفاحية لبدء العمل المسلح لإنقاذ البلد المضاع، واضعين في الحسبان فورة الشباب واندفاعاته، فعمل على تأسيس تنظيم أطلق عليه اسم (الشباب القومي العربي) وقبل ذلك أصدر في عمان مجلة أسبوعية سماها (الرأي) تولى رئاسة تحريرها الدكتور أحمد طوالبة، وتولى هو كتابة مقالها الافتتاحي، وكان يسعده أن يجد صدى ما يكتبه لدى الناس.
ثم بدأ يعمل وثلة من أصدقائه على تأسيس (حركة القوميين العرب)، وانشاء فروع لها في البلدان العربية، التي قادها صالح شبل في لبنان، وفي سورية هاني الهندي، وتولى الدكتور أحمد الخطيب عمليات التأسيس في الكويت، وسيسهم في سنوات تلت إلى جانب آخرين في إصدار مجلة (الطليعة) التي ترأس تحريرها عضو مجلس النواب الكويتي؛ الصحفي سامي احمد المنيس، واخيراً انتقال صالح شبل إلى العراق ليقود تجربة التنظيم في العراق، ولأن غالب كتاب المذكرات لا يدونون مذكراتم ابان الحدث، لذا يقعون في السهو والخلط، عاذرين الدكتور حبش لظروفه الصعبة فهو يؤكد» ولم أعد أذكر بالضبط التاريخ الذي انتقل فيه صالح شبل إلى بغداد، ليبدأ تجربتنا في العراق، بعدما تسلم مسؤولية لبنان الأخ عدنان فرج_ رحمه الله-».ص84
المؤتمر التأسيسي للحركة
كان مركز عمل الدكتور جورج حبش في عمان، وإذ أنشئت النواة الأولى للتنظيم في بعض البلدان العربية، فكان يجب عقد المؤتمر التأسيسي للحركة وتصادف ذلك مع انتعاش أيام الحريات الدمقراطية التي نعم بها الأردن أيام حكومة السيد سليمان النابلسي، والحركة الوطنية الرائعة التي قادها الملك الحسين بن طلال، بإعفاء قائد الجيش الأردني ( كلوب باشا) من مهامه، فعقد المؤتمر سنة 1956 وضم أكثر من أربعة عشر عضواً من مختلف أنحاء الوطن العربي منهم: جورج حبش، وديع حداد، محسن إبراهيم، مصطفى بيضون، احمد ستيتية، ثابت مهاينة، الحكم دروزة، هاني الهندي، عدنان فرج، صالح شبل، احمد الخطيب، وحامد الجبوري.
في هذا المؤتمر التأسيسي الذي لم يحدد الحكيم تاريخه بدقة، ومثل هذه التواريخ المفصلية المهمة ما كان يجب أن تغادر الذاكرة الشخصية، لكن غادرتها- أسفا- في هذا المؤتمر أطلق الاسم الجديد على التنظيم الوليد (حركة القوميين العرب) وغودر الاسم القديم (الشباب القومي العربي).
في اللقاء الصحفي الطويل الذي ناف أمده على المئة ساعة، وقد أجراه معه الصحفي الفرنسي جورج مالبرينو، واصدرته كتابا دار فايار الفرنسية، واوصى الحكيم بترجمته إلى اللغة العربية كي يقرأه الناس الذين يهمه أمرهم فهو أساسا يتحدث إليهم، وتولت دار الساقي في بيروت نشره سنة ٢٠٠٩ بعنوان ( الثوريون لا يموتون ابدأ)،اي بعد سنة من رحيل الحكيم في شباط/ يناير ٢٠٠٨،يساله مالبرينو عن من قابل من زعماء العالم، وإذ يتباهى غيره ويتنفج بمثل هذه اللقاءات، فإن الحكيم المتواضع الذي يعرف قدر نفسه، يؤكد أن علاقته مع الشعب وليس مع الجهات الرسمية، لكنه لا يخفي فخره أنه التقى جمال عبد الناصر وفيديل كاسترو وحسن نصر الله.. إضافة إلى رفاق النضال الطويل، كالشهيد القائد وديع حداد، والشهيد الفذ أبو امل (محمد عبد الكريم الخطيب) الذي حملت قصة شهادته قصة مأساة تل الزعتر. ص٣٠
يحدثنا عن لقائه الأول بالرئيس عبدالناصر سنة ١٩٦٤، لدى احتفال الجمهورية العربية المتحدة بإنجاز مشروع السد العالي، الذي موله الاتحاد السوفيتي وبدء ملء سد أسوان بالمياه، إذ اتصل به سامي شرف سكرتير الرئيس وأخبره أن الرئيس يريد استقباله على ضوء العلاقة المتينة التي تربط حركة القوميين العرب بالجمهورية العربية المتحدة» كان هذا هو اللقاء الأول (. ) ذهبت إلى منشية البكري حيث يقيم الرئيس (. ) وحين فتح الباب وجدت الرئيس جمال عبدالناصر يتمشى في الحديقة مع زوجته، كان بسيط الهندام بصورة تلفت النظر، وقد استقبلني بود وبساطة وشعرت معها فورا إني مع صديق قديم أعرفه منذ زمن طويل (. ) استهل الرئيس حديثه بالترحيب بي والاستفسار عن صحتي، ثم سألني: ما هي الأخبار؟ وحين ذكرت له إنني كنت في سورية قبل مدة قصيرة، بدأ يستفسر عن أحوال الناس هناك، فذكرت له بعض التفاصيل التي تدل على تعلق الجماهير به وبقيادته، ذكرت له بعض القصص والروايات التي شاهدتها وسمعتها بنفسي، فلاحظت أنه تأثر كثيرا وذكر لي إنه فكر في اللحظات الأولى من الانفصال أن يسترد الإقليم الشمالي، بأرسال قوة عسكرية إلى سورية، وتذكر قسمه بالحفاظ على وحدة الإقليمين وإنه يعرف مدى تعلق الجماهير السورية بالوحدة العربية، لكنه في نهاية الأمر شعر إنه لا يستطيع أن يرى عملية تصادم جيشين عربيين،فقرر التسليم بالأمر الواقع ، لأنه على قناعة بأن الوحدة لا يجوز أن تتم بالقوة.».ص131
تأسيس الجبهة الشعبية
وإذ تحصل كارثة الخامس من حزيران/ يونيو ١٩٦٧ ،فان الحكيم ومن معه من قادة الحركة: وديع حداد وهاني الهندي ومحسن ابراهيم، يبدأون العمل على تأسيس فصيل مسلح يعمل على استرجاع الأرض المحتلة، وإذ كان العمل يجري بدأب من أجل بلورة تنظيم يقود الكفاح المسلح، لكن في هذا الخضم فوجىء العاملون بغياب ممثل ( حركة فتح) عن الاجتماعات التمهيدية هذه، ومن ثم انطلاق ( فتح) في العمل المسلح منفردة، وإصدارها بيانات بأعمالها بدءا من أيلول/ سبتمبر ١٩٦٧ مما أدى إلى حدوث شرخ في العمل الحربي الفلسطيني وانقسام مازالت تعانيه القضية الفلسطينية حتى الآن، الأمر الذي دفع الحركة إلى إعلانها إنشاء جناحها العسكري المسلح تحت إسم ( الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين) في ١١ من كانون الأول/ ديسمبر ١٩٦٧.
الدكتور جورج حبش في مذكراته هذه، التي لولا دأب زوجته (هيلدا حبش) لما رأت النور، إذ اعتنت بهذه الصفحات التي خطتها بيدها وتجاوزت المئتي صفحة، وتمثل إرث المؤسس القائد حبش والحركة والجبهة ونضال الشعب الفلسطيني في سنوات حاسمة من تاريخه، ولكي تضع الحقيقة بيد الجماهير، خوف التعدي والقرصنة والادعاء وما أكثره ومن ذلك قيام هاني الهندي بنشر وثائق الحركة من غير علم الحكيم أو الرجوع إليه.
الدكتور في مذكراته هذه لايكاد يجامل ولا يحابي، هدفه الحقيقة، حتى المر منها، فإذ يحاول البعض تجميل الواقع المؤسي فإن الدكتور يعلن بجرأة أن غالبية الأعمال القتالية التي خاضها المقاتلون ضد العدو الغاصب، كانت قليلة التأثير، ولا سيما بعد اتخاذ إسرائيل احتياطاتها الأمنية، كان يرى في ذلك استنزافا لقوى الثورة، لذا اتجه إلى مجال قتالي آخر، هو خطف الطائرات كي يوجه أنظار العالم نحو القضية الفلسطينية التي تولى قيادتها وديع حداد، فضلاً عن إنشاء بؤر ثورية في الأرض المحتلة، ويقف طويلا عند المبالغة في البيانات العسكرية الصادرة عن فصائل المقاومة.
مسؤوليته التاريخية وصدقه مع الذات والفكر لا تعفوانه من ذكر الحقائق على مرارتها، وما كان يحصل ايام الحرب الأهلية اللبنانية (١٩٧٥-١٩٨٩) ليذكر أن القوات الوطنية حرقت وسرقت كما فعلت القوات الانعزالية، يذكر:» إن هذه الحرب كانت في غاية البشاعة، وتلك البشاعة لم تقتصر على ما فعلته القوى الانعزالية في تل الزعتر، بل كانت القوى الوطنية والمقاومة الفلسطينية تقترف الكثير من الأعمال التي تسيىء لسمعتها، إن موضوع السرقات التي حصلت داخل الأسواق التجارية أصبحت معروفة لدى الجميع (. ) لقد كان في إمكان القوى اليسارية أن تميز نفسها (. ) وأذكر أني زرت منطقة الدامور بعيد المعركة، ورأيت مدى الدمار الذي وقع فيها. كما أذكر أنني قرأت على أحد الجدران:» من هنا مر ابو الجماجم»، وتساءلت (. ) أين هو مصدر الفخر في مثل هذا التعبير؟ ومن هو أبو الجماجم هذا الذي يسمح لنفسه أن يقترف مثل هذه الجرائم وهو يسيىء لسمعة الثورة وتاريخها؟». ص 232
ولأن الدكتور جورج حبش لم يدون مذكراته ابانها- كما قلت انفا- أو ملخصا لها أو رؤوس أقلام، ونحن قراء مذكراته، نتفهم موقفه الصعب وتنقله وتخفيه في أماكن متعددة، والتدوين قد يؤذيه ويكون دليلا على إدانته، لذا فهو يدون في أماكن عدة من مذكراته هذه، أنه ما عاد يذكر ما دار في الاجتماع الفلاني وأسماء من حضره، او بعض من حضره مثال ذلك ما ورد على الصفحة ١٣٧:››غير أن الشك بدأ يساورنا في الجدية التي ينظر بها هؤلاء الأشخاص إلى المشروع الذي طرحناه. ولكن، كان عزاؤنا هو ما لمسناه من اهتمام الرئيس جمال عبد الناصر بالموضوع، وشعورنا بارتياحه إلى ما طرحناه. لم أعد أذكر بطبيعة الحال النقاش الذي دار بيننا، ولكنني أذكر الصورة العامة التي كانت وهي استمرار عبد الناصر في الأصغاء».
وعدم التدوين جعله يذكر» ولكنني شعرت بأقصى درجات الألم يوم السبت 10/حزيران/ يونيو حين أعلن عبد الناصر تنحيه عن أي
منصب رسمي أو دور سياسي واستقالته من رئاسة الجمهورية. فقد كنت كعشرات الملايين من المواطنين العرب الذين يريدونه أن يبقى رئيسا ويتحدى، ويتعامل مع ذلك بوصفه هزيمة في معركة،لانهايةللحرب».ص149
وصحة الأمر أن الرئيس ناصر ألقى خطاب تنحيه المتلفز عصر يوم الجمعة الحزينة التاسع من حزيران/ يونيو.
وعدم التدوين جعله يغفل مشاركة بعض التنظيمات العراقية مع الجبهة أثناء معارك أيلول 1970 ومعارك الأغوار وجرش ومنها بعض عناصر القيادة المركزية للحزب الشيوعي العراقي ومنهم أبو ذر (عقيل الخزاعي) الذي كان يصدر نشرة خطية عنوانها (المسيرة الكبرى) تيمنا بمسيرة الزعيم الصيني (ماو) كان يوزعها على المقاتلين في القواعد وصل خبرها للدكتور القائد، الذي طلب مقابلته وشكره وقال في اجتماع للمفوضين السياسيين في احراش جرش: تعلموا من الشيوعيين العراقيين. فضلاً عن مشاركة بعض عناصر حزب العمل العربي بقيادة (أبو عدنان) هاشم علي محسن،الذي كان رئيسا لاتحاد نقابات العمال في العراق سنة ١٩٦٤ وما تلاها.
عدم تدوين المذكرات انياً، جعله يسمي رئيس اللجنة العربية العليا التي تولت العمل على وقف إطلاق النار بين الجيش الأردني والمسلحين الفلسطينيين أواخر أيلول 1970، يسميه (الباغي الأدهم) ص189وهوالمجاهد التونسي ضد الاستعمار الفرنسي (الباهي الأدغم) وأول رئيس للوزراء في تونس بعد الاستقلال سنة 1956 وإعلان الجمهورية سنة 1957، وهو ما يطلق عليه (الوزير الأول) في دول المغرب العربي، وكان هو الوزير الأول التونسي وقتذاك.!
إن كتاب (صفحات من مسيرتي النضالية. مذكرات جورج حبش)؛ كتاب جدير بالقراءة لذا ماجانبت أرملته (هيلدا حبش) الحقيقة حين دعت كل مواطن عربي حر إلى قراءته، لأنه يعبر تعبيرا صادقا ووافيا عن صاحب التجربة الذي تحدث بكل شجاعة وموضوعية وقال الحقيقة مهما كانت جارحة وقاسية.ص42