فاروق مصطفى
تمرَّسَ موشي بولص» في كتابةِ القصصِ القصيرةِ جدًّا، وحتّى أنّهُ يضعُ فوق عناوينِ قصصهِ: قصّةٌ قصيرةٌ جدًّا، وفي الأغلبِ أنّ هذه القصصَ تتكوّنُ مِن سطرَينِ أو ثلاثةِ أسطرٍ، وأحيانًا تصلُ إلى أربعةٍ أو خمسةِ أسطرٍ، وهو في هذا يُعنى باجتباءِ مفرداتِهِ متفنِّنًا في تحريكِها وتنقيطِها وتنصيصِها.تُخبرنا قصصُهُ بأمرينِ رئيسَينِ، الأوّل: غضبُهُ الشّديدُ ونفورُهُ الأسيانُ مِن كلِّ مشهدٍ استغورَ فيهِ الفسادُ وعاثَ في شرايينِهِ ومسالكِهِ سوءًا وخرابًا، والثّاني هو التـفاتتُهُ إلى عالمِ الحيوانِ والطّيورِ، فثمّةَ ألفةٌ ووشائجُ بينهُ وبينَ عالمِ الطّيورِ وبالأخصِّ عالمُ العصافيرِ، فالكاتبُ»موشي» يتـفنَّنُ في كسبِ ودِّها وصداقتِها، ولا يألو جَهدًا في توفيرِ أقواتٍ وأرزاقٍ لها في حديقةِ دارهِ وحدائقِ مقرِّ عملِهِ في شركةِ نفطِ الشّمالِ وحتّى في الحدائقِ العامّةِ، وأصادفُهُ مرّاتٍ وقد حملَ معه كيسًا أو مظروفًا مليئًا بالقمحِ أو الرّزِّ حتّى ينثرهُ للطّيورِ الّتي يصادفُها، وكثيرٌ مِنَ الكتّابِ أمثال « دوستويفسكي» و»جاك لندن» و «زكريا تامر» وغيرهم تعاطوا الكتابةَ عن عالمِ الحيوانِ والطّيرِ وأبدعوا في إضاءتِهِ، وكذلكَ(موشي) عندما يقاربُ هذا المضمارَ يجيدُ صنعتَهُ القصصيّةَ وتبلغُ نزوةُ قصّهِ عن هذه الكائناتِ منتهاها ومِن دنيا ذواتِ الرّفيفِ ودنيا ذواتِ الهريرِ ينتقلُ إلى مشاهدِ الفراشاتِ والحلزوناتِ وأيِّ كائنٍ في الطّبيعةِ يستوقفُهُ ويظلُّ يتأمّلُهُ ويحاولُ أنْ يقصَّ علينا الحكمةَ مِن وجودِهِ وحزنِهِ المنداحِ عند بوارِهِ وتعرّضِهِ إلى المهالكِ. ففي قصّتِهِ المعنونةِ بـ (فراشاتٌ) يدلّنا الطريق إلى هذه الكائناتِ الرّقيقةِ بَناتِ الطبيعةِ الملوّناتِ، إلّا أنَّ قسوةَ الحياةِ لا تتركُها وهي في أثناءِ تحليقِها ترتطمُ بزجاجِ المركباتِ، فعندَ ذاكَ تُعجَنُ وتُهرَسُ بلا رحمةٍ.
في قصصِ (موشي بولص) أجدُ السّاردَ أو الرّاوي يلتقطُ هذه المشاهدَ الحياتيّةَ مِن زوايا عدّةٍ، حتّى ينظر إليها بدقّةٍ وإمعانٍ، وثمّةَ صراعٌ أو نزاعٌ بينَ هذهِ الكائناتِ التي يحكي عنها وقوى أخرى غامضة مخفيّة تحيطُها بالكتمانِ، وهو يحاولُ نقلَ هذا الصّراعِ الخفيِّ أو النّزاعِ الكامنِ باذلًا جَهدَه في الكشفِ عن خفاياهُ، وعند ذاكَ يتخفّفُ مِن آلامِهِ الجوَّانيّةِ ويلقي عنه أطمارَ مواجعِهِ. لقد استطاعَ أنْ يلتقطَ المشهدَ وأضاءَهُ وصبّهُ في ورشتِهِ الحكائيّةِ، وكأنّهُ تخفّفَ مِن وجعٍ مابرحَ يثـقلُ عليهِ. وفي قصّتِهِ الموسومةِ (طيورُ الحِدأةِ السّوداءِ الملعونةِ) ينقلنا إلى أجواءِ الحقولِ الّتي أصابتها حمَّى النّيرانِ وقد وُجِّهَتْ أصابعُ الاتّهامِ إلى الكثيرِ مِنَ الجهاتِ، ولكنَّ القاصَّ يُوجّهُ أصابعَ اتّهامِهِ إلى طيورِ الحِدأةِ الّتي تلتقطُ عيدانًا مُتّقِدةً وتُسقطُها على سنابلِ القمحِ. والحِدأةُ كما تُخبرنا كتبُ اللّغةِ، طائرٌ مِنَ الجوارحِ ينقضُّ على الجرذانِ والأطعمةِ والدّواجنِ ونحوِها، ويُقالُ في الأمثالِ هو أخطفُ مِنَ الحِداةِ وتُجمَعُ المُفردةُ: حِداءٌ وحِدآنٌ، والمفارقةُ هنا لا تستطيعُ أيّةُ جِهةٍ توجيهَ أصابعِ الاتّهامِ إليها حتّى لو توفّرتْ الإثباتاتُ، فكما يُعلّقُ الرّاوي « فلنْ يأخذَها القضاءُ على محملِ الجدِّ».
ها هو الكاتبُ «موشي» يلتقطُ مشهدًا شارعيًّا صاحِبَتُهُ(قطّةٌ)، ففي القصّةِ الّتي حملتْ عنوانَ» قطّةٌ عند بوّابةِ مطعمٍ»فهو يلقي أضواءَهُ على قِطّةٍ سعيدةٍ أكلتْ حتّى التُّخمة فاستلقتْ إلى جانبِ الرّصيفِ ناسيةً الدُّنيا ومَنْ فيها مِنَ الرّائحينَ والغَادينَ حتّى لو جاءَ الطّوفانُ فهي في كسلِها المُخدرِ لأنّها شبعتْ وأحاطتها السّعادةُ وعلى الدّنيا السَّلامُ. وأنتَ تنظرُ في قِصصِهِ تلقى أنواعًا مختلفةً مِنَ الطّيورِ وتقعُ على ضروبٍ عدّةٍ مِنَ الحيواناتِ، تقرأُ القصصَ فتُمطرُكَ زخّاتٌ مِن رفيفِ أجنحةِ العصافيرِ واليمامِ والحماماتِ والببغاواتِ والغربانِ والحِداءِ (ج/ حِدأة) وتخطو فوق قوارعِ قصصِهِ فتخطو معكَ القِططُ والكلابُ والدِّيَكَةُ، وتسمعُ أزيزَ النّحلِ وتهويمِ الدّبابيرِ ودَبيبِ الأرْضَةِ وهي ترسمُ خرائطَها على الحيطانِ وتقولُ رُبَما الكاتبُ تخصّصَ في علمِ الأحياءِ والفيروساتِ الدّقيقةِ.
قدَّمَ (موشي بولص) لمُتلقّيهِ أكثرَ مِن عَشْرِ مجاميعَ قصصيَّةٍ ولكنَّ القِصصَ الّتي تلقَّيتُها منهُ لم تضمْها أيّة مجموعةٍ مِن تلكَ المجاميعِ، إلَّا أنّها سوف تظهرُ في مجموعةٍ جديدةٍ، وكلُّ هذه القصصِ تتمتّعُ بسلاستِها وتتميّزُ بإِيجازِها الشَّديدِ وتكتنزُ بالتقاطِها الأشياءَ العاديّةَ البسيطةَ، إلَّا أنّها تُعْجَنُ بين يديهِ مضافةً إليها أفاويه فنّهِ. فإذًا هي قِصصٌ ثريّةٌ بفنِّيَّتِها وقدرتِها على استمالةِ المُتلقّي والاندهاش والتّأثُّر بعوالمِها الجميلةِ المتميّزةِ.