محمد زكي ابراهيـم
يؤمن بعض المعاصرين أن التطرف الديني، الذي أصبح ظاهرة مخيفة في المنطقة، ناتج عن القمع والتهميش ورفض الآخر. ويرون أن انتشاره رد فعل طبيعي لسياسات الأنظمة الاستبدادية التي حكمت لسنوات طوال في بلادنا العربية، ولم تسمح إلا بقدر ضئيل من الحرية والمشاركة في السلطة.
ولأن حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية امتازت بقيام حكومات الحزب الواحد، وهيمنة العسكر، ودولة المخابرات، فإن فرضية ظهور التطرف السلبي لو حدثت فإنها تبدو مبررة. ويمكن في ضوئها تفسير خروج الجماعات التكفيرية إلى العلن، بسبب ما مارسته من تكميم للأفواه، ورقابة على العقول. غير أن الحقيقة أنها لم تبد أي تذمر، ولم تحرك أي ساكن، ولم تطلق أي رصاصة، ضد هذه الحكومات. وكانت في كثير من الأحيان جزءً من أجهزتها الأمنية.
ما حصل هو على العكس من هذا تماماً. فجل جماعات التطرف الديني نشأت في ظل أنظمة ديمقراطية، تؤمن بالتعددية، واحترام الأديان. وكانت تتمتع فيها بالحرية المطلقة في العمل والحركة والتنقل. الأمر الذي شجعها على التمرد وإعلان الثورة.
والمفارقة أن هذه الجماعات أفصحت عن ولادة منظماتها المختلفة حال سقوط الأنظمة الشمولية. وبدأت بشن حملات ضارية على خصومها من الطوائف الأخرى، وعلى أعدائها الجدد في مؤسسات الدولة الأمنية. وكأنها خرجت للانتقام من انهيار الاستبداد السياسي الذي أطاحت به الجماهير الغاضبة. وكثيراً ما أعلنت الحرب على الديمقراطية بدعوى أنها نتاج العلمانية الغربية. ومعنى ذلك أن النظام الديمقراطي القائم على الاقتراع التمثيلي وحرية العمل السياسي واحترام العقيدة، ليس ضمانة لاضمحلال العنف الديني، ولا وسيلة لامتصاص نقمة المعارضين. بل هو الوسط الذي تظهر فيه هذه الظواهر مجتمعة. أما ضحية هذا العنف فهو الطرف المحكوم أو المستضعف. وهذا الأمر ينفي بشكل واضح فرضية خنق الحريات الآنفة الذكر.
على أن التطرف الديني لا يعني دائماً اللجوء إلى العنف، فقد كان هناك في البلاد الإسلامية وغير الإسلامية أشخاص يميلون بعقائدهم إلى أقصى اليمين أو ينتقلون بأفكارهم إلى أقصى اليسار، لكنهم لم يلجئوا إلى القتل والسبي والتدمير والاختطاف. كما هي حال الجماعات المكفرة التي ظهرت لأول مرة في العصر الحديث، أواخر القرن الماضي. مثل هذا التطرف أسهم في بلورة كثير من العقائد الدينية وغير الدينية، وأمدها بذخيرة فكرية. فهو تطرف يحمل بعض الإيجابية.
والصحيح أن التكفير والإبادة الجماعية وممارسة أقصى أنواع الإيذاء هي أفكار داخلة في صلب عقيدة هذه الجماعات، وليست نتاجاً لاضطهاد خارجي. ومتى ما وجدت الفرصة سانحة للإيقاع بخصومها فهي لا تتردد في فعل ذلك. وفي الغالب لا تتوفر هذه الفرص إلا في ظل أنظمة متساهلة ومتسامحة، تؤمن بحرية الرأي والعقيدة والدين. ولا تضع قيوداً على أي نشاط سياسي أو فكري أو دعوي، إلا إذا كانت مضرة بالمجتمع، أو مفضية به إلى الدمار!