حصاد أكثر من 16 عاماً مما يفترض انها مرحلة للعدالة الانتقالية؛ كشف وبما لا يقبل الشك عن طبيعة المخلوقات التي تربصت بـ “المسؤوليات والمواقع القيادية” في هذا الوطن المستباح. بالنسبة لي شخصياً استبعد تماماً امكانية تواجد من يعي معنى “المسؤولية” بين صفوف هذا الجيش العرمرم من “مسؤولي” حقبة الفتح الديمقراطي المبين. فالمسؤولية قبل كل شيء هي تجسيد للوعي العميق المتواشج مع روح الايثار وخدمة الشأن العام، وهذا الوعي لا يمكن ان يسمح لصاحبه بالتورط مع مثل هذه الطبقة السياسية، والتي غلب على سلوكها وممارساتها طابع اللصوصية والشعوذة وباقي الخصال المتنافرة ومنظومة القيم التي نهضت بالمجتمعات والدول الحديثة. يروج البعض لمفهوم (التكنوقراط) ويضفي عليه قدرات سحرية في انتشالنا من الحضيض الذي انحدرنا اليه برفقة هذه الكتل والجماعات الشرهة، من دون ان يلتفت الى ان هذا المفهوم هو جزء يسير من منظومة واسعة ومتكاملة عرفتها الامم التي وصلت لسن التكليف الحضاري بعد سلسلة من الثورات والزحزحات العلمية والقيمية. لذلك سرعان ما تحول من تنطع للعب هذا الدور وسط قوارض المشهد الراهن الى مجرد دمية بائسة تثير الشفقة والاسى، ومثل هذا المصير لن يفلت منه كل من تسول له نفسه في الانخراط بهذا الماراثون صوب المواقع والعناوين الرنانة.
من بديهيات الوعي الذي اشرنا اليه والذي يعد شرطاً اساسياً للتصدي لمثل هذه الوظائف الحيوية؛ هو ادراك قواعد اللعبة التي سينخرط فيها، ومن ثم الدور الذي سيؤديه وفقاً لفرمانات الجهة أو الجماعة التي تكرمت عليه بتلك “المسؤولية” وما سيتمخض عن كل ذلك في نهاية ذلك المطاف، والذي لن يشذ قيد انملة عما تعرفنا عليه في كل الدورات الانتخابية التي شهدها عراق ما بعد “التغيير”. اذن نوع “المسؤول” المطلوب من قبل حيتان الكتل المهيمنة، سيخضع لمعايير وقياسات هي في واقع الامر تمثل الضد النوعي لمعنى وجوهر هذا العنوان (المسؤول) والذي على أكتافه شيدت سلالات بني آدم اعظم واجمل التحولات المادية والقيمية. البعض ممن قذفته الصدفة التاريخية لنادي “المسؤولين” يسارع بمحض تلقفه للأمر الديواني بتنصيبه في ذلك المفصل الحيوي، الى اتخاذ اجراءات وتنقلات في مواقع “المسؤولية” محدثا الكثير من الصخب والضجيج، من دون ان يلتفت الى ان مثل هذه الممارسات لم تعد مثيرة للاهتمام، بوصفها اجترار ممل للمنهج الذي أدمنت عليه هذه الطبقة السياسية؛ أي الترقيعي أو ما يطلق عليه شعبياً بـ “العطابات” حيث يعاد فيها تدوير المواقع والعناوين وفقا للثوابت الجليلة.
لذلك لن نجافي الموضوعية والانصاف عندما نضع الكثير من علامات الشك والريبة، على هذا النوع من المخلوقات الشغوفة بمثل هذه “المواقع والمسؤوليات” في هذا الظرف الشاذ الذي تمر به بقايا الدولة العراقية، ومن الاهمية بمكان الاشارة الى ان مثل هذا التدهور، يمتد بجذوره الى عقود هيمنة النظام التوتاليتاري المباد، وقد وصل الى الحضيض برفقة هذه الجماعات واسلاب العقائد التي تبرر كل انواع اللصوصية والتخلف والاجرام. ان الارتفاع الى مستوى المسؤولية الحقيقية، بعد كل هذا الخراب الذي لحق بالبشر والحجر في هذا الوطن المنكوب؛ عملية شاقة وطويلة ومريرة، وسنحتاج الى الكثير من الانعطافات والتحولات في السلوك والقيم (افرادا وجماعات) كي نشهد ولادة نسل جديد من (المسؤولين) ينطبق عليهم قول جلال الدين الرومي بانهم “يستحون من الله”…
جمال جصاني