احتراقات شاعرة وهي تشرب الشاي في نيوجرسي

علوان السلمان

النص الشعري، انزياح عن معيار قانون اللغة على حد تعبير جان كوهن، لتحقيق الوظيفة الجمالية الكامنة في طاقته الدلالية المنبعثة من الفاظه التي تنسج عباراته وتحقق معنى يحرك الذاكرة ويسهم في نبش الخزانة الفكرية للمستهلك (المتلقي)..من خلال توظيف المنتج(الشاعر) امكانات اللغة الصوتية والتصويرية والايحائية والوجدانية لإنجاز قصديته وايصال الفكرة المضمونية التي يحتضنها جماليا..
والشاعرة فليحة حسن في تجربتها الشعرية (احتراقات),التي اسهم الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق في نشرها وانتشارها ضمن مجموعتها الشعرية(وانا اشرب الشاي في نيوجرسي)/2018…كونها نصوصا تعتمد رؤية شعرية محددة بمنطق جمالي يتواصل بمشهدية ترقى من الواقعي(المحسوس)الى التخييلي) الذهني) بجمل خالقة لصورها النابضة بالحركة والتوهج الوجداني بتوظيف اللفظة التي تجسد الفعل الشعري المتجاوز على مستوى التعبير والتركيب..فضلا عن اعتمادها على فعل داخلي متصل بالذات الكيان الانساني الذي يحمل مشاعرا واحاسيسا وشاعرية تحاول التعبير عنها لتعكس القيمة الجمالية للروح والوجود..
قدمي الاولى في سجن
والاخرى تبحث عن مأوى
من حدق بي
لاح له ظلي
ومن لاح له ظلي
أبصر فيّ تواجده
ومن أبصر ضوء تواجده
تاه…… /ص58 ـ 59
فالشاعرة تؤثث عوالم المكان بمقتبس من مقولة النفري الصوفي (كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة), وتعيد تشكيل الزمن عبر الفاظ دالة على فعله الذي تصارعه، فالنص الشعري عندها يتعاطى مع الحياة بامتداداتها التاريخية وموجوداتها لتحقيق رؤية كونية، اذ يبدأ بفعل حركي(تبحث) قائم على انعكاس الحالة النفسية للذات الشاعرة التي تدلل على التفاعلية بين النص والذات والذات الجمعي الاخر، باستدراج الواقع والرمز، لتحقيق مآرب النص وغاياته الحالمة عبر هندسة للحالة النفسية شكلا وعمقا من خلال دفقه العاطفي وانسيابية لغته الشعرية وتخطي الخطابية..والخوض في غمار جوهر الخطاب الشعري الذي يعتمد بناء النص لا بناء الفكرة كونها جوهرية فيه,ابتداء من العنوان,النص الموازي, المركب من جملة خبرية تحيل الى المتن النصي، فتعكس ابعاده وتحقق وظيفته الانفعالية والجمالية والشعورية,فضلا عن انه يعتمد حركة مضمرة على المستوى النفسي المثقل بإشارات من الذاكرة الجمعية التي تعمل في مستوى شعوري يمثل القوة التعبيرية التي تمنطق الرؤية لدى الشاعرة كونه يعمل على تأطير النص المكتنز دلاليا، اضافة الى ان الشاعرة تغترف وتستوحي عن طريق(التناص) ما يناسب نصها لتضفي عليه جمالية وصبغة حضارية متواصلة من خلال الاستبصار الشعري لشخوص التراث التي تشكل اضاءة لمتاهات البنى الخفية لعوالم الذات والوجود الملتف حولها..
وقيل بأن السيارة وهم يحملون(يوسف)كحقيقة حلم
وجدتُ رقماً يقطر دم العين عليه
(يا امرأة صيرت الدنيا مفردةً واحدة
استودعتكِ قلبي ضميه اليكِ
لهيبا أبديا
أ ورديه ان اسطعت اليّ/ ص64.
فضلا عن توظيفها التمظهرات السردية المتكئة على تقنيات السرد (الحدث/ الشخوص/ الدراما / الزمكانية/ الحوار..)..اضافة الى توظيفها اسلوب التكرار اللفظي العنصر البنيوي المحتفظ بدلالته التي تتعمق عبر الالفاظ الشارحة له, فضلا عن انه يمنح النص شحنة درامية متصاعدة..
ظل الاخر يحلم..يحلم..يحلم فقط
يحلم(مثلي)
فالرمادي بأن تحرقَ الرأس هما
وينساك لونه
ويصبح ابيض / ص69ـ ص70
والتضمين والتشخيص والنداء عبر (ياء النداء) الدالة على البعد والتي تكشف عن انكسار نفسي..
من زمن وهو يفاجئني
بين القلب وبين النبض
وأنا أسأله: يا هذا
من ارسلك الي ربيعا
بعد يباس؟ /ص61
مع اعتماد وحدة موضوعية ونمو نصي في إطار بناء هندسي يدفع النص فكريا واجتماعيا وفنيا، كون النص ينبثق من نصوص متداخلة intertexts))، يقدمها الموروث المتواتر.
قيل:
بأن الصبر الكامن فينا ظلام دروب
شكا لليل تيبسه
وقيل ترنم بمواويل منها:
لو تعلم الناس
ما صاحت باسمي ابد
من حيث آني الحزن
لقصور كلبي ساد
انده على الشراي
يمكن يكدر الثمن
من كان بي يهم
بس الذي همني
لدروب كلبه ساد) /ص49 ـ ص60
فالرؤية الشعرية تقوم على تلخيص الواقع بصور فنية مركبة ومتعددة الابعاد تبنى على العلاقة ين الاشياء ومدلولاتها في سياق البحث عن منافذ تشتغل بها الدلالات والمعاني لتمنح متلقيها الدهشة..لذا فهي تمزج الحلم بالخيال عبر لغة انفجارية بعيدة عن القاموسية والتقريرية المباشرة في سياق حسي متواصل مع الحياة من اجل توكيد ما يعتمل في خلجات الذات الشاعرة التي تبني نصها على مضامين انفعالية ووجدانية لخلق جماليته بتوالد معانيه,فضلا عن توظيف الشاعرة النص الشعري الشعبي باجوائه الروحية مما اكسب لغته حضورا ومنحها قدرة التواصل. فضلا عن اضفائه ملمحا جماليا بالتمازج والفصيح من القول، وبذلك قدمت الشاعرة نصا زئبقيا متعدد التأويلات يبعث على التأمل الذي هو عملية ذهنية تضفي جمالية للنص الذي يتخذ من الوهج الدلالي ممرا للولوج في عوالم قصية من الابداع التخييلي الوجداني، عبر رؤية ابداعية بمدلولاتها الحسية المتصارعة من اجل خلق شعرية خيالية تتناغم فيها الرؤى وتتفاعل في انساق مفعمة بالحيوية، مليئة بالرموز والاشارات والايحاءات التي تسهم في تحريك ونبش الخزانة الفكرية لاستلهام مكنوناتها ومتابعة نسقها وسياقها.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة