حدود المعرفة!

حينما يتوصل العلماء إلى حل لظاهرة من ظواهر الكون، أو يجتهدون في الكشف عن سر من أسرار الطبيعة، فإنهم في الغالب لا يفعلون ذلك رغبة في الحصول على مغنم، ولا يشقون من أجل حيازة ثروة. وقد لا يعرفون ماذا يدر اجتهادهم على البشرية من منافع، أو يدفع عنها من ضرر، في قابل الأيام.
غاية ما هنالك أن هؤلاء العلماء يقومون بإزاحة حدود المعرفة قليلاً، دون أن ينتظروا مردوداً. ويشبعون فضولهم العلمي حتى لو لم يلقوا معروفاً. وقد لا يمتد بهم العمر ليدركوا ماذا أحدثوا في العالم من تغييرات. فمكتشف الأشعة السينية مثلاً لم يكن يعلم أن اختراعه سيكون المعين الأول للأطباء، ويصبح عنصراً أساسياً في المختبرات والمعامل. ومكتشف الليزر لم يدر في خلده أنه سيفتح الطريق أمام تجار الحروب لإنتاج القنابل الذكية، ويصبح من أهم أدوات الدمار في عصرنا الحاضر. عدا عن استخداماته الواسعة في الطب وهكذا.
والواقع أن دفع حدود المعرفة لا يقتصر على البحث العلمي التجريبي أو النظري. فالمتخصصون في الدراسات الإنسانية يفعلون الشئ ذاته. ويقومون من جانبهم بأداء نفس الدور. ونحن مدينون الآن لنظريات وضعت قبل قرنين أو أكثر لآدم سمث وجون لوك وهيغل وجان جاك روسو ودو سوسيير وغيرهم من المشتغلين بالاقتصاد والفلسفة والاجتماع واللغة وسواها في الكثير من شؤون حياتنا. وهذه النظريات اتسعت ونمت بمرور السنين حتى غدت عماداً لأفكار جديدة ساهمت بدورها في دفع حدود المعرفة من جديد وهيأت الفرصة لآخرين ليقوموا بـذات المهمـة مـرة أخـرى.
غير أن الفارق بين البحث العلمي الصرف والعلوم الإنسانية أن الأول يقوم على الدليل التجريبي الذي يثبت صحة الفكرة. وقد لا يتيسر له الحصول على علامة النجاح. ويمكن أن يأتي هذا الدليل بعد سنوات طويلة أو لا يأتي. فالنسبية العامة التي اقترحها آينشتين عام 1916 بقيت مجرد نظرية تلهب خيال الدارسين دون أن تسمح الظروف بتجربتها على الواقع حتى عام 1919 في إحدى الجزر الإفريقية.
أما العلوم الإنسانية فتقوم على مبدأ العلة الخارجية. أي أنها تميل إلى حل مشكلات قائمة، أو الكشف عن ظواهر مستعصية. ولا تشترط الدليل على صحة ما تذهب إليه. فلم تتهيأ الفرصة لإثبات صحة نظريات روسو في العقد الاجتماعي مثلاً إلا بعد سنوات طويلة في القرن التاسع عشر أو القرن العشرين. لكنه كان واثقاً من أنها ستجد سوقاً رائجة في يوم ما.
وهكذا اتسعت حدود المعارف الإنسانية في هذا الجانب أو ذاك، سواء تحت مبدأ العلة الخارجية أو الدليل التجريبي. ومادام العقل البشري قادراً على اكتشاف المزيد فإن معلوماتنا اليوم ربما ستكون ساذجة بعد نصف قرن، وقد تتطور بطريقة لا نحلم بها اليوم، لأن هذه هي سنة الكون منذ بدء الخليقة وحتى إشعار آخر!

محمد زكي ابراهيم

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة