عركَشينة السيد واستراحة المقاتل

ابتسام يوسف الطاهر

رواية د.سلمان كيوش الرائعة (عرﮔشينة السيد) بعوالم تشبه الواقعية السحرية في الاسلوب الشاعري السلس بوصف المشاعر والاشياء والشوارع، والجسور، آه الجسور التي اعشق السير عليها والعبور الى الضفة الاخرى وتأمل روجات النهر وهي تتهادى تسابق بعضها. كنت أفسر ذلك بأنها وجدت ليست لعبور الناس فقط دون الخوض في مياه النهر، بينما وجدت لحماية المياه من اقدام عابريه! أو هي ايدي حميمة توصلك الى الجانب الاخر بأمان اكثر من الزوارق والسفن، وكم تمنيت لو ان الجسور تبقى للمشاة فقط! لكنها امنية غير واقعية ولا عملية.
الرواية منحتني رؤيا اخرى وتفسيرا شاعريا أجمل للجسور، لذلك الحب الذي يشاركني فيه الكثير، منهم بطل الرواية السيد الناجي، «الجسور تمنح احساسا طارئا بالحرية والانعتاق والرغبة في التحليق فوق كل ماهو واطيء ومبذول، الجسور هي الأماكن الوحيدة التي تمنحنا حرية الإختيار بين الاتجاه وعكسه، والارتقاء والهبوط وتمنحنا احساسا ربما زائفا لكنه لذيذ، انه ليست بنا حاجة لغيرها لديمومة الحياة والانتصار على نكدها..»ص71-72
رواية عرﮔشينة السيد هي سرد او بوح رومانسي شاعري افلاطوني، جعلها الروائي على لسان البطل ليبوح بها للراوي (الروائي) الذي مر على سبب لقاءه بالسيد سريعا بسطور قليلة، صورت لنا محنة المواطن مع الدوائر الرسمية وروتينها القاتل المزمن، ليسارع للحديث عن لقاءه بذلك العاشق، ليمنحنا ذلك الاحساس بالفرح والحب والغناء الذي يجيده اهل الجنوب اهل العمارة، فهناك ابتدع السومري اول آلة موسيقية منحتها الطبيعة له وابدع هو في جعلها الة للشجن والبوح عن الفرح والحزن.
لم تتعرض مدينة عراقية للاهمال والتنكيل والتشويه كما حصل لمدينة العمارة، بالرغم من عطائها الوافي من شعراء وادباء ومطربين، اضاءوا سماءنا المعتمة بغيوم الحروب والحصار والارهاب والفساد بكل انواعه، باجمل الاغاني وأعذب الالحان، وبالرغم من طبيعتها الزاخرة بالتنوع من انهار واهوار وغابات نخيل وبساتين، لكن اهلها خاصة من نزحوا لبغداد لم يسلموا من نزعة التعالي البغدادية خاصة ممن اصولهم ليست عراقية، تركية أو ايرانية أو سعودية!
فجاءت رواية د.سلمان كيوش لتعيد الاعتبار الى تلك المدينة العريقة المعطاء، أو ربما هو الحنين للجذور «لم تعد العمارة كما كانت مجرد مكان جنوبي، لم تعد كذلك بعد لقائي بالسيد هاني الناجي، فقد اعطاها نزوح اهلي دلالة واخزة ومعذبة جديدة، واضفى على حنين جيناتي الى العمارة معنى مغايرا «ص50
«مدينة نادرة بلا فواصل أو محطات استراحة، لأنها لاتحتاج اليهما، أهي هكذا فعلا أم أنا أضفي عليها الوجه البهي الاخر المتوقع لهزيمتي في الثورة الهجينة وبغداد كلها» ص57
وضع الكاتب فلسفته في الحب والحياة في عرقجينة السيد «الحب يستر جميع المعاصي» ص81 مع ان الحب كالموت يجرب ولا يوصف» ص97
فالسيد العاشق يحكي عن أول رسالة لحبيبته التي استعصى عليه الحديث المباشر معها «الكتابة اسمى، في الاقل لأنها تمنحك فرصة طيبة لجس نبض كلماتك وتخيل وقعها، كما تمنحك فرصة تشذيبها أو ذر روحك على حبرها قبل أن يجف» واهل العمارة يحرصون على التستر في العشق والحب، فهو ثمين لديهم ومقدس ولابد من حمايته كما يعبر عنه.
رواية سلمان كيوش حقا تستحق ان توزع على كل العرب والعراقيين لتشذب ارواحهم التي علاها غبار الحروب وزنجارها وغطاها صدأ الجهل والقسوة والحرمان، فمعظم الروايات منذ الثمانينات حتى الان بدأت بتمجيد الحرب وابطالها الشهداء، ثم جاءت روايات مباشرة تحكي عن مآسي الحروب واسرار السجون والمعتقلات والتعذيب الذي مارسته سلطة البعث، ثم مآسي الغربة ولوعة الفراق والحنين منذ بداية ثمانينات القرن الماضي الى اليوم، والتي اجاد بعض الروائيين بتصويرها لتكون رسالة للعالم الجاهل لما يدور في تلك البقعة المبتلاة، ولكن لابد من استراحة للمقاتل، لابد من نسمة هواء نقي تعيد للأنفاس نقاءها وحبها للحياة، لابد من عمل يشبه نسمة تزيح الغيوم المدلهمة كلوحات (كلود مونيه) بعد الحرب العالمية الأولى، التي حرص على رسم الطبيعة بالوانها الخلابة فكانت لوحاته اشبه بواحة يستريح في ظلها من قطع الصحراء برمالها وحرها، والتي يصفها النقاد بأنها كانت بمثابة علاج نفسي لتنقية روح الفرنسيين وابعادها عن مشاهد الحرب وتبعاتها.
هكذا كانت رواية (عرﮔشينة السيد)، فالدكتور كيوش اعاد الاعتبار للامل والحب، فكم نحن بحاجة لمن يجعلنا نعوم فوق ماء صاف عذب يطفيء لهيب الصيف ويمنحنا الدفء بالشتاء بنفس الوقت، كم نحن بحاجة لمن يشير للسماء نتمنعن بزرقتها ويأخذنا الخيال بعيدا لعوالم الجمال، كم نحن بحاجة لمن يقول اننا حتى في زمن الحرب والقسوة نعرف قيمة الحب فنغني ونكتب اشعارا تزيح الغيوم السوداء التي ظللت حياتنا لعقود.
قد يكون في قراءة اخرى دلالات ورموز فنرى الحبيبة هي العراق، هي بغداد، هي العمارة..، و أي من المدن التي نعشقها وننتمي لها مهما بعدنا وامتد زمن الفراق، وربما يحتج الروائي كيوش كما فعل اراغون حين اعترض على تأويلات اصدقاءه والنقاد لقصائده لحبيبته إيلزا، فالحب يستحق انه يكون هو المغزى وهو القضية فمنه يمتد الحب للناس والارض والحياة.
لندن – تموز 2019

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة