ذكرياتي.. فاروق مصطفى رسول

تواصل “الصباح الجديد” نشر كتاب “ذكرياتي” للمناضل العراقي الكبير فاروق ملا مصطفى، ويعد هذا الكتاب الحلقة الثانية ضمن سلسلة تهدف الى استعادة تاريخ النضال السياسي اليساري في العراق خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين، ويعد الأستاذ فاروق أحد الرموز اللافتة والمثابرة في مجال المعارضة السياسية للدكتاتورية والعمل من أجل عراق ديمقراطي متنور مزدهر.
وتعود معرفتنا بالأستاذ فاروق الى عقود طويلة منها سنوات العمل المشترك ولو عن بعد، في حين حفلت تلك العقود بلقاءات متعددة، منذ بداية مشاريعه الناجحة، عندما كنت مندوباً عن صحيفة الحياة اللندنية، وسمح لي الحظ أن أرافق خططه المبكرة لواحدة من ألمع التجارب الاقتصادية والتجارية في البلاد، والمتمثلة بتأسيس الشبكة الدولية للهاتف النقال التي تحولت الى شركة كبرى هي آسيا سيل وكان حلمه آنذاك أن يكون لكل مواطن في كردستان هاتف خاص به في وقت كانت فيه تجربة الهاتف فتية على المجتمعات المتقدمة وغير المتقدمة وكنت قد أسهمت في نشر الروح المقدامة للأستاذ فاروق وجرأته التي ارتكزت الى تجربة ممتازة في مجال المشاريع المختلفة، بدءًا من صغيرها الى كبيرها، والتي انتهت الى اسهامات يذكرها كل مواطن في إقليم كردستان وخارج إقليم كردستان.
ومن المزايا المهمة التي اشتمل عليها نشاط الأستاذ فاروق، أنه حاز ثقة العالم الصناعي الامر الذي سمح له بالتوسع والانتشار الى قطاعات أخرى كبناء المستشفيات وانشاء جامعات طبية ومتخصصة وهو ما نحتاج إليه أشد الحاجة.
كما تميزت تجربة الأستاذ فاروق في انقاذه مشاريع كانت على وشك الاندثار، كمؤسسات ومعامل السمنت في الإقليم، الامر الذي أسهم في توفير فرص عمل لمئات المواطنين وتوظيف آخرين بمناصب لإدارتهم، في الوقت الذي كانت الدكتاتورية تعاصر شعبه وتهمل المدن والمؤسسات والبشر.
وفوق كل ذلك ارتفع فاروق الى الأعلى، بسلوكه الثوري الإنساني الذي عاد على العديد من اقرانه وأصدقائه ومواطنيه بالفائدة والدعم من دون أن تكون له منافع شخصية، او اهداف من قبيل نشر الدعاية الخاصة لشخصه ومؤسساته، وهذا انعكس أيضاً على الطبقة السياسية التي وجدت فيه داعماً مرموقاً ومعتمداً ومسهماً في المناسبات التي أتيحت له المشاركة فيها.
وإذ تنشر “الصباح الجديد” صفحات مشرفة لهذا المناضل، فلأنها تعد أنموذجاً للوطنية والمثابرة وحب الوطن والمواطنين.
ولا يمكن أن نتخيل مدينة السليمانية الآن بالذات، وهي المدينة التي أحبها وعشقها من دون أن نتذكر او يخطر في بالنا اسهامات فاروق وفضائله الكبيرة على مدينته، الأمر الذي يجعله موضع حب واحترام واسعين.
هذه الذكريات، انموذج للكفاح الذي أثمر أفضل ما يمكن أن يتخيله إنسان في مجال النضال الشاق والغابة السياسية المليئة بالألغام والامتحانات الإنسانية الكبيرة والقاسية.
ان تجربة الأستاذ فاروق تمنح القارئ بتفصيل ممتع نكهة الحياة والشرط البشري الذي كان عليه أن يرسمه لمجايليه وللأجيال المقبلة.
بهذه المناسبة نود أن نعبر عن امتنانا واحترامنا للتجارب التي مر بها الأستاذ فاروق ونأمل ان يشعر القارئ الكريم بالشيء نفسه.

الحلقة 13 والأخيرة

المساومات الدولية والثورة الكردية

الأسباب الخارجية
كردستان محاطة ومحاصرة بدول عدة تقف ضد استقلالها والتمتع بحريتها، لأن استقلالها يهز أركان تلك الدول، ويعرض مصالحها للمخاطر، على امتداد سنوات الثورة سدت تركيا الأبواب بوجهها، وخاصمتها عسكرياً بين حين وحين آخر وفقاً لسياستها الإقليمية.
في عام 1963 عندما كان نظاما البعث في سوريا والعراق متوائمين، أرسلت الحكومة السورية جيشها إلى العراق لدعم الجيش العراقي في ضرب الثورة الكردية. وبعد أن ساءت العلاقات بين البعثين ونشأ الصراع بينهما راحا يكيدان ويخططان المؤامرات ضد بعضهما، ولم يتجاوز الدعم والتعاون السوري للكرد في ذلك الوقت وبعده، حدود إيواء بعض السياسيين والدعاية الإعلامية والسماح لهم بالمرور والعبور، ولم يتعد ذلك المستوى. ومع السعي الجاد والجهد الكثير الذي بذلته جبهة (التجمع الـوطني العراقي) لم ترفع الحكومة السورية العلاقة والدعم إلى مستوى أفضل، رغم كون جبهة التجمع الوطني تضم حزب البعث اليساري العراقي الموالي للحكومة السورية.
بعد انتصار ثورة 14 تموز 1958، وانقطاع حلقة هامة من حلف السنتو في العراق، بدأت الحكومة الإيرانية تعادي العراق. وقبل اندلاع ثورة أيلول، اتصلت الحكومة الإيرانية ببعض الإقطاعيين والعشائر الكردية. ومع بدء ثورة أيلول، اغتنمت إيـران الفرصة للاتصال والتدخل في شؤون وخطوط الثورة. ومنذ ذلك الوقت أنشأت الثورة الكردية بدايات علاقة صداقة مع إيران نتيجة لافتقارها إلى جهة صديقة، استناداً إلى المعادلة القائلة (عدو عدوي صديقي).
في الحقيقة لم تربط الصداقة ولا العلاقة الدبلوماسية إيران الشاه بالمسألة الكردية، ولم تبغ في علاقتها هذه سوى تنحية الثورة الكردية وعزلها واستعمالها كأداة في الأوقات والفرص المناسبة.
بعد مرور أربع عشرة سنة من الصداقة والتعاون وصل الموقف الإيراني عبر اتفاقية الجزائر إلى:
1 – الانسحاب الفوري لقواتها من كردستان العراق.
2 – قطع كافة الإمدادات والمساعدات المالية والعسكرية المقدمة إلى الثورة.
3 – منع استيراد وتصدير كافة المواد الغذائية وقطع سبل المواصلات والحركة التجارية.
4 – التهديد بغلق المنافذ الحدودية أمام الثورة في حال استمرارها.
5 – التهديد بضرب أي تحرك قرب حدودها.
6 – حجز آلاف عوائل البيشمركة واللاجئين الكرد في مخيمات إيران
٧- إنشاء حزام أمني مشترك على الحدود العراقية الإيرانية بالتعاون مع الحكومة العراقية.
وفي الوقت نفسه تخلت الحكومة الأميركية عن المسألة برمتها، وبموقفها الواضح هذا أعلنت عداءها الإمبريالي الأميركي السافر إزاء الشعب الكردي. إن القيام بدراسة الموقف الإيراني والأميركي تجاه ثورة أيلول، ليس من أجل تصفح أوراق الماضي ودفاتر التاريخ، بل له أهمية كثيرة من مختلف الجوانب، خاصة ونحن نخوض اليوم تجرية حساسة جدا وعلينا أن نستفيد بجد ودقة وعمق من التجارب المريرة والكوارث التي شهدناها في الماضي. وفي هذا العالم الذي يشهد يومياً أحداثاً سياسية كبيرة، ينبغي البحث عن صحة المواقف بعين فاحصة وندرس المساومات الدولية السابقة، لنميز الأسود من الأبيض.
لنلق نظرة فاحصة على هذه الوثائق الهامة ونستقي منها الدروس:
في العام 1976 شكلت لجنة لدراسة النشاطات والفعاليات السرية لجهاز المخابرات الأميركية برئاسة (أوتيس بايك) ونشر تقرير اللجنة باسم رئيسها. ولأن الحكومة الأميركية غدرت بالحركة الكردية كثيراً، لهذا لم ترد نشر التقرير بأي شكل من الأشكال.
يثبت التقرير أن مصطفى البارزاني اتصل عام 1971 برئاسة المخابرات الأميركية من طهران طالباً منها الدعم ضد الحكومة العراقية.
وظلت الرسالة بلا جواب. وفي العام 1972 أعاد الطلب، وفي هذه المرة وجه الطلبان إلى (لجنة الأربعين) التي تشرف على مجمل الفعاليات السرية للمخابرات الأميركية. وكان هنري كسنجر يرأسها في ذلك الوقت.
وقد ورد تقرير أوتيس بايك على الشكل الآتي:
إن الدلائل التي جمعتها اللجنة تثبت أن القرار اتخذ في الدرجة الأولى، من أجل طمأنة إيران الحليفة التي نتضامن معها بإخلاص، وتعتقد إيران أن هناك أخطاراً تهددها من العراق جارها، حيث العداء بينهما قديم، وليست خلافاتهما أساساً ناتجة خلافات عقائدية، ولكنها في هذا الوقت تهم الولايات المتحدة.
وجاء في التقرير أيضاً: إن هدف الولايات المتحدة من مساعدة الكرد لم يكن من أجل تمكينهم من إحراز إنتصار يساعدهم على الحصول ولو على حق الاستقلال الذاتي. إن حصول الكرد في العراق على هذا الحق يمكن أن يؤثر علـى الكرد في إيـران، وهذا يسبب مشكلات للشاه، وبالتالي، فلقد كان المطلوب هو ضبط حدود المساعدة للملا مصطفى بحيث تظل دائماً على مستوى معين! مستوى يستطيع عنده استنزاف قوات الجيش العراقي وإنهاك أسلحته وقيادته وأفراده، وفي الوقت نفسه في مستوى لا يستطيع معه إحراز إنتصار مؤثر يحقق الاستقلال، ويؤثر على كرد إيران.
يستنتج من التقرير، أن المساعدات الأميركية والإيرانية لم تنبع من قيم إنسانية بل قدمت من أجل مصالح خبيثة استغلت لها ثورة شعب، ولم تكن القيادة الكردية عميلة، لأن العميل لا يستغنى عنه ببساطة.
واذا كانت القيادة البارزانية مستعدة لأن تبيع نفسها لأميركا وإيران، لتلقت المساعدات الكبيرة كسائر الحركات المرتزقة ولما خافت أميركا وإيران من أن تحرز هذه القيادة انتصارات كبيرة.
ويتضمن القسم الأخير من التقرير حقيقة تاريخية، أو اعترافاً سافراً بالغدر الكبير الذي اقترفته الحكومة الأميركية بحق الشعب الكردي (لقد كانت سياستنا غير أخلاقية إزاء الكرد، فلا نحن ساعدناهم، ولا نحن تركناهم يحلون مشكلاتهم بالمفاوضات مع الحكومة العراقية، لقد حرضناهم ثم تخلينا عنهم).
إن الاعتراف الأميركي هذا واضح لدرجة بحيث لا يحتاج أي تفصيل وتأكيد آخر حول لا أخلاقيتهم إزاء الشعب الكردي. والآن فلنعرف ماذا يقول شاه ايران وكيف يعبر عن موقفه.
ففي المقابلة التي أجراها معه (محمد حسنين هيكل) ونشرتها جريدة الأنوار اللبنانية في 9/2/1975 يقول صراحة: “نعم لقد ساعدنا الثورة الكردية وكنا في الآونة الأخيرة القوة الحاسمة خلفها بحيث عندما أوقفنا عنها تأييدنا حدث ما حدث، أريد أن أقول إنني لم أخلق ثورة الكرد، بل رأيتها حقيقة واقعة. على مدى السنين الماضية تعودت الأنظمة الحاكمة العراقية على معاداتنا. كنا نتعرض لحروبهم الإعلامية العلنية وعداواتهم وهجماتهم التخريبية. وقد حدثت مراراً اصطدامات مسلحة.
إنني لاحظت في الثورة الكردية فرصة لنا. قلت لنفسي لماذا لا أستغلها؟ فاستغليتها.. لم لا؟ هل أنني أريد أن أشعل المشكلة الكردية؟ بالطبع لا.. لا تنسى لدي في إيران أقلية كردية كبيرة.
ويعرض تقرير لجنة بايك بصراحة تامة حقيقة علاقات أميركا بالثورة الكردية، التي تتلخص في النقاط التالية:
1 – لقد استصغرت المخابرات الأميركية المسألة الكردية بدرجة استنكفت عن رد طلب مصطفى البارزاني حتى لو كان على نحو سلبي، الذي طلب منهم العون والمساعدة ضد النظام العراقي في آب 1971.
2 – إن الخطوة الصغيرة التي اتخذتها الحكومة الأميركية أخيراً تجاه القضية كانت لطمأنة حلفائها الإيرانيين المهددين من طرف جارتهم الدولة العراقية.
3 – يوضح التقرير على نحو تام حقيقة، وهي أن المساعدات التي قدمتها الحكومة الأميركية إلى الكرد لم تكن بهدف إحراز النصر ونيل حقوقهم حتى وإن كانت في إطار الحكم الذاتي. لأنه في هذه الحالة
ستؤثر هذه الخطوة على كرد إيران وتوقظ حماسهم، وتخلق مشكلة لشاه إيران.
إن هذه الحقيقة واضحة ولا تتطلب تحليلاً عميقاً، وتبدي لنا موقف أميركا إزاء المسألة الكردية بعيداً عن اللف والغموض. فالمصالح الأميركية هي التي تحدد قراراتها ونوعية موقفها تجاه شعوب العالم بعيداً عن الادعاء بالالتزام بأي ممارسة ديمقراطية وتقدير لمبادئ حقوق الإنسان. تستغل هذه المفاهيم والمصطلحات لمصلحة الرأسمالية الأميركية، للاستيلاء على نفط هذه البلدان، بغية تطوير اقتصادها وإبقاء سيطرتها على رقاب معظم بلدان العالم.
ويرسخ شاه إيران في الحوار الذي أجراه معه محمد حسنين هيكل، هذه الحقيقة ويقول، إنه قد استغل الحركة الكردية لأهدافه ومآربه الخاصة والخبيئة في الوقت الذي رأى أن ذلك يصب في مصلحته .

عاملان حسما توقيت
التخلي عن المواصلة
اولاً:
توجست الحكومة الإيرانية شراً وخوفاً من الاندحار الذي تعرضت له الثورة الكردية في معركة خريف 1974، أمام هجمات الجيش العراقي المتتالية وظهرت لها قوة الجيش العراقي الذي أعاد سيطرته على المناطق المحررة أكثر من مرة، ولَمْ يعد بإمكان الثورة الكردية استعادتها. ربما خافت إيران من أن لا تحمد عقبى الأمور وتصل المعارك إلى حدودها المتاخمة، برغم علمنا أن الجيش الإيراني مدرب ومسلح وضخم لكنه لم يخض حتى ذلك الوقت أي حرب ليمتحن ويجرب نفسه وطاقاته، مقارنة بجيش العراق الذي يحارب الثورة الكردية منذ عام 1961 ويدرب نفسه على الدوام.
ثانيا:
خضعت الحكومة العراقية لمساومة ذليلة أمام الحكومة الإيرانية، وتخلت عن حقوق العراق في الماء والأرض والسيادة الوطنية. كانت هذه فرصة تاريخية فأصاب الشاه هدفين بسهم واحد:
أ – ما يبغيه من الصراع الدائر بين العراق وإيران تحقق له من خلال اتفاقية دولية معترفة بها.
ب- تخلص من قلق ومخاوف وصول نيران الحرب إلى الحدود وداخل إيران. لم تحسب قيادة الثورة الكردية حسابا دقيقا لعلاقاتها مع الحكومة الإيرانية، وتناست تجربة جمهورية كردستان (جمهورية مهاباد)، وتعامل الشاه الجائر معها. ولتقوية علاقاتها مع حكومة إيران، ارتكبت أخطاء كبيرة بخصوص معاداة الحركة الثورية الكردية في كردستان إيران، ووصل الأمر إلى سجن وملاحقة وقتل العديد من قادة وكوادر ثوريي كردستان إيران، وتسليمهم أحياء أو قتلى إلى الحكومة الإيرانية.
يقول كريم سعيد مصيفي، في كتابه المعنون (30 سنة من النضال ووطن مهدم، الطبعة الأولى، السويد) (قدمت قيادة الثورة ثمنا باهظا بسبب تيهها، وغدت مبعث الضجر في صفوف الثورة وبين جماهير كردستان إيران أيضا.) ويستطرد قائلا (عندما أشاحت قيادة الثورة بوجهها عن إيران في ١٩٧٢، أرسل شاه إيران رسالة إلى قادة المكومة العراقية، مؤكدا أن المكومة الإيرانية مستعدة لقطع مساعداتها وإمداداتها عن كرد العراق، إذا أبدوا، أي قادة الحكومة العراقية استعدادهم لتنفيذ مطالب إيران المتعلقة بالحدود. في البداية لم تبد الحكومة العراقية الليونة أمام المطالب، وما أن تجددت الحرب حتى تبين لها عجز جيشها عن محاربة الثورة، ثم تذكرت مقترح الشاه، وفي النتيجة وقعت الاتفاقية في الجزائر).
لم تقدر قيادة ثورة أيلول، ولم تعِ ضبط ميزان التعاون مع إيران كدولة، ومع الحركة القومية والوطنية الكردية في إيران لمصلحتها، بل أضعفت من أعقبها. وظهر ذلك بوضوح بعد اتفاقية 6 أذار 1975، حيث أثر سلبا على الثورة ف كردستان.
إن آخر انتقاد تاريخي يمكن توجيهه إلى قيادة ثورة أيلول في نظري، هو شكل خاتمة تلك الحركة وانسحاب قواتها إلى داخل الأراضي الإيرانية بصمت وهدوء وسكوت مطبق وبدون إصدار بيان أو توضيح للجماهير وحتى للبيشمركة تحلل وتبين فيه أسباب ونتائج النكسة ويتضمن استشرافا إلى المستقبل.
غدت مؤامرة آذار 1975 الكبرى ضد الشعب الكردي، وتحت تأثير الأسباب الأسباب المؤدية إلى نجاح التآمر والنكسة الداخلية لضعف الثورة، أخر سبب من الكبرى التي شهدتها الثورة الكردية، وأنهت حياة إحدى أهم وأقوى الثورات الكردية. وبسط النظام الفاشي البعثي جناحيه الأسودين على كردستان وضرب بجذوره على نحو أعمق في كافة أنحاء العراق.
وبرغم كل الملاحظات والانتقادات الموجهة إلى ثورة أيلول، لابد أن ننظر بعين التقدير إلى بطولات وتضحيات والأم آلاف الشهداء والمناضلين المشتركين في سنوات ثورة أيلول من بداية 1961 حتى نكسة 1975. وللأن تعتبر ثورة أيلول من ثورات الشعب الكردي الكبرى التي قامت وناضلت دفاعاً عن الأهداف القومية المشروعة لشعب كردستان ونضاله الدامي المديد، رغم جميع النواقص وجميع الانتقادات.
وأوضحت وأثبتت نتائج النكسة في تلك الأيام والوثائق المتعلقة بما تلاها، أن قيادة ثورة أيلول التي وقعت في أخطاء كبيرة، وظهرت في مسيرتها نواقص، إلا أنها لم تكن خادمة أو عميلة لأي قوة أو دولة من الدول.

تقييم العلاقة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والقيادة المركزية
كان الحزب الشيوعي العراقي (القيادة المركزية)، الحزب الوحيد الذي مارس نشاطه علنا في كردستان وأقام علاقات مع الحزب الديمقراطي الكردستاني. لم يجتمع هذان الحزبان في جبهة وطنية أو وفق معاهدة داخلية رسمية مدونة، لكن التعاون والصداقة على الصعيد السياسي والعسكري قربهما من بعضهما.
إن إيمان الحزب الشيوعي العراقي (القيادة المركزية)، بحقوق الشعب الكردي في تقرير مصيره وتحقيق آماله وأهدافه القومية والديمقراطية، واعتقاده بأن الاضطهاد القومي جزء من الاضطهاد الطبقي، مهد أرضية لعلاقة مبدئية مع الحزب الـديمقراطي الكردستاني.
فتحت القيادة المركزية خمسة مراكز في المناطق المحررة من كردستان، وشاركت في الحرب ضد الجيش العراقي في المراكز الخمسة. ومارست في المدن فعاليات سياسية وثورية وعسكرية كثيرة.
وفي خارج العراق رفع حزبنا صوتاً جريئاً وصريحاً، في وقت رامت بعض من القوى السياسية العراقية تضييق الخناق على الثورة الكردية في منابر الحركات التحررية الفلسطينية، واليمن الديمقراطية، وسوريا، ولبنان، وأوروبا وإخفاء وجهها التحرري الديمقراطي الناصع، ليبرز جانب ارتباطها بإيران وأميركا فقط.
استطاعت القيادة المركزية الدفاع عن الثورة الكردية والحزب الديمقراطي الكردستاني بكل السبل المتاحة على منابر تلك البلدان.
كانت القيادة المركزية من أهم الأطراف القوية في جبهة (التجمع الـوطني العراقي) التي تأسست في الشام، وأصبحت في تلك الجبهة العراقية الواسعة من دعاة تثبيت مطالب وأهداف الشعب الكردي، وسهلت طريق الصداقة والتضامن معه.
في عام 1974 طلب منا المرحوم إدريس البارزاني أن نتصل بالحزب الشيوعي الصيني، ونبذل الجهد لالتقاء الطرفين، استأثر الطلب باهتمام حزبنا، فسعى لتحقيقه. كانت الحكومة الصينية تنظر بارتياب إلى العلاقة القائمة بين إيران والثورة الكردية، وعدت الطلب ضرباً من اللعبة السياسية في ساحة السياسة اليومية، بيد أن القيادة المركزية تمكنت من تغيير بعض وجهات النظر الصينية حيال الثورة الكردية، ولو تأخرت نكسة عام 1975 بعض الوقت، لأستقبل الرفاق الصينيون
وفداً مشتركاً للقيادة المركزية والحزب الديمقراطي الكردستاني. وكان هنالك مقترحاً بأسماء الوفد من السادة إدريس البارزاني و سامي عبدالرحمن و د. ابراهيم علاوي وكاتب هذه السطور.
وماثل رأي ونظرة حزب العمل الألباني الموقف الصيني، ففي 1973 زرت ألبانيا، كما أسلفت، ممثلاً عن الحزب الشيوعي العراقي – القيادة المركزية، ناقشت القادة الشيوعيين في (تيرانا) العاصمة، ثم لاحظت أن تغييراً قد طرأ على بعض آرائهم حول الثورة الكردية.
حاول الحزب الديمقراطي الكردستاني بقوته الهائلة وجماهيره الواسعة، احتكار السلطة والساحة السياسية لنفسه وتعمقت هذه الرغبة لديه يوما بعد آخر، وبدلاً من الانصراف إلى تعاون حقيقي وتأسيس جبهة واسعة ويخطو نحو أوسع آفاق الديمقراطية، لم يتعمق ولم يدقق النظر في تعاونه مع القيادة المركزية، وبالعكس دبر الخطط لتضييق وتقليل حركتنا وفعالياتنا وتحجيم مقراتنا، وفي حال حدوث أدنى مشكلة كان يوجه ضرباته إلينا ولم يكن يكتم فرحه بنتائجها وعواقبها.
بوسعنا أن نجمل أسباب تلك التصرفات في النقاط الآتية:
الأولى: الرغبة في تطبيق سياسة سلطة الحزب الواحد أو القائد الأوحد في كردستان.
الثانية: الحفاظ على توازن معادلة علاقات الحزب الديمقراطي الكردستاني بالحكومة الإيرانية ومن يعاونها من جهة، ووجود الحزب الشيوعي حليفاً وصديقاً للديمقراطي الكردستاني في الثورة من جهة أخرى.
الثالثة: ضعف أو غياب علاقة الحزب الشيوعي العراقي (القيادة المركزية) مع مركز دولي موثر.
هذا إضافة إلى بعض الأسباب الإيديولوجية والطبقية العميقة. وباءت محاولاتنا كلها لتأسيس جبهة وطنية في كردستان بالفشل، وكنا نطرق الحديد البارد كما يقول المثل الكردي الشائع.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة