كاظم مرشد السلوم
«الحاضر غرس الماضي، والمستقبل جني الحاضر، والتاريخ سجل الزمن لحضارات الشعوب والأمم»
مهمة كتابة التاريخ دراميا
كل عمل درامي، مسرحيا كان ام سينمائي أو تلفزيوني وحتى الإذاعي، هو توثيق لمرحلة زمنية، وهي الفترة التي انتج فيها هذا العمل، فانت تتحدث عن الراهن والحاضر بما يشهده من أحداث، اقتصادية او سياسية او اجتماعية بكل تفاصيلها، وحتى الاعمال التي توصف بالتاريخية والتي تتناول احداث تاريخية تأخذ هذا التوصيف فيما لو ربطت التاريخ الماضي بالحاضر كشهادة أو دلالة.
لذلك فالعمل الدرامي هو طريقة لكتابة التاريخ بطريقة أخرى غير طريق التوثيق المكتوب الذي تعودنا عليه، وهي طريقة سهلة الوصول الى الجمهور، باعتبار ان الكثير من هذا الجمهور، قد لا يقرأ ولا يهمه قراءة ما يحدث حتى من خلال الصحف المطبوعة، بل يذهب لمشاهدة العمل الدرامي من خلال وسائط العرض الذي تعددت بعد الانتشار الكبير للفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي، مسرح، سينما، تلفزيون، إذاعة، وغيرها.
اذن الدراما في بعض اشتغالاها هي توثيق لمرحلة ما، ولكن ما مدى إمكانية ان نثق بهذا التوثيق، هل هو توثيق بدون انحياز، هل هو توثيق غير خاضع لضغوطات مختلفة، والأهم، هل هو توثيق ينتصر للجمال على القبح، الذي أنتشر وبشكل كبير مع تنامي وتوسع الإرهاب، الذي اشاع هذا القبح، من خلال عديد قنواته سواء المسلحة او غير المسلحة، فما نشره وتنشره
التنظيمات المتطرفة من فيديوهات توثق لأعمالهم الإرهابية، لا يمكن مواجهته بالعمل المسلح فقط، بل بالفعل المقابل الذي يمكن ان يسحب الجمهور لصالحه، ويدين القبح الذي أنتشر. وهذا الفعل هو الاعمال الدرامية المختلفة.
بعض الاعمال الدرامية تأتي مبطنة، في ظاهرها انها أدانة للقبح، لكن في باطنها هي تأييد له، وتشجيع عليه، فالكثير من المسلسلات حاولت ان تقول انها تدين التطرف، الإرهاب، القبح ، لكن ومن خلال عناصر الاشتغال الدرامي، الحوار، الصورة، تضمين بعض المقالات ،نجد الكثير من الإشارات التي تنتصر للقبح، وحتى نكون عادلين في احكامنا، ان بعض من ذلك لم يأتي دائمة بقصد، بل من عدم دراية، وعدم الخبرة في الاشتغال الدرامي، الذي هو اشتغال يمثل سلاحا ذو حدين، فلو أردنا قراءة العديد من الاعمال الدرامية، من خلال تأويل نصها المرئي، لوجدنا الكثير من الإشارات التي تحتمل التأويل، ويأتي هذ التأويل حسب طبيعة قارئ العمل ، والاسقاط الفكري والاثني والمذهبي على هذه القراءة، فهناك من يحاول التأويل لمصلحة فكر يحمله ، والأخر قد يأتي بتأويل مختلف تماما.
هنا تكمن خطورة العمل الدرامي، وضرورة ان يكون صانع العمل خبيرا وضليعا بعمله، لا يترك ثغرات لتأويل منحاز، بل يشتغل على فكرة واضحة منذ البداية، تتلخص في ان الفعل القبيح، قبيح مهما كانت مبرراته، والجميل جميل، ما دام يحمل صفة وبصمة الجمال والأمل.
وفي العودة الى أهمية التوثيق وخطورته، نذكر ان كل ما حصل في الحربين العالميتين ، وثق صوريا بكاميرات الجنود من الفرق الإعلامية التي كانت ترافق الجيوش، ومن كلا الطرفين، فالجنود الالمان وثقوا، وكذلك الحلفاء، هذا التوثيق استخدم في البداية وقبل انتهاء الحرب، كوسيلة من وسائل الحرب في التأثير النفسي على الشعوب، وبعد انتهاء الحرب اتخذ استخدام هذه الوثائق شكل ثاني، فالقبيح قد أنهزم « الالمان، الفاشست، والنازيين» ، وبقي المنتصر الذي يمثل الجمال، والسؤال هل كان المنتصر جميلا في كل أفعاله، الجواب كلا، لان استخدام الوثيقة المصورة أخذ شكلا اخر، تمثل في ان كل طرف من الأطراف استخدم الوثيقة لصالحة، خصوصا بعد ان تحول العالم الى معسكرين، شرقي وغربي ، وكل منهم ، ادعى انه هو صاحب الفضل في الانتصار، بل ان بعض الوثائق استخدمت لإدانة هذا الطرف او ذاك ، ليصبح حلفاء الامس ، أعداء اليوم.
اذن نحن بحاجة الى توثيق لا يمكن ان يزور مستقبلا لصالح هذه الجهة او تلك، لان العمل الدرامي، غير العمل الوثائقي، والصورة الناتجة عن الأول، تحاكي الواقع وتطرحه حسب رؤية صانعي هذا العمل، بينما الثاني يمكن ان يتلاعب بوثيقة ما، من خلال التعليق او من خلال الادعاء بانها له، وحتى من خلال تزوير هذه الوثيقة، لذلك فمن الضروري ان نستخدم الوثيقة المتوفرة لدينا والتي تدين القبح في محلها، متصديين لمن قد يزورها مستقبلا.
وبما ن لدينا الكثير من الوثائق التي تدين أفعال الإرهاب والقبح الذي نشره، فبالإمكان استخدامها ضمن العمل الدرامي لإدانته، ونكون بهذا قد وثقنا لتلك الأفعال.
في المقابل تقع على عاتقنا مهمة نشر الجمال، من خلال اعمالنا الدرامية، لمواجهة القبح، فهل استطعنا ان ننهض بهذه المهمة ونتكفل بإنجازها من خلال عديد الاعمال الدرامية التي قدمت على شاشات التلفاز والسينما، وكذلك على خشبة المسرح؟
نعم هناك محاولات عديدة في هذا الجانب، لكن اعتقد انها ليست بالمستوى المطلوب، فإشاعة الجمال يحتاج الى تظافر جهود تدعم تلك الاعمال، المسرح الاحتجاجي قدم اعمالا تدين القبح، ومجد ابطالا ساهموا في التصدي لهذا القبح، وحصل على مساندة كبيرة من الجمهور، وارى ان هذا المسرح يحتاج الى تفعيل دوره بشكل اكبر، من خلال تصدية لكل مظاهر القبح، فالقبح ليس إرهاب فقط، بل ان الفساد قبح، وقلة الخدمات ومعاناة الناس قهر وقبح، وهي احد أسلحة الإرهاب التي يتعكز عليها، لذا وجب مواجهته من خلال اعمال درامية تربط بين الإرهاب والفساد ، متخذة أسلوب موازنة تعرض فيه نماذج جميلة، تتحدى كل أنواع القبح.
اخيرا لا يوجد مجتمع خال من الجمال والقبح، وتبقى مهمة الدراما ان تنتصر للجمال على القبح، من خلال توثيق الفعل الجمالي، وإشاعة ثقافة الجمال، تلك الثقافة غير الصعبة، فمقاومة الإرهاب والتطرف جمال، ومحاربة الفساد جمال، والنظافة جمال، والاحتجاج المنطقي الفاعل غير المخرب جمال.
والقبح موجود كذلك، ومن واجب الدراما كبحه، من خلال اعمال تدينه وتوثق له، لتوعية الناس بخطورة انتشاره، وهي مهمة نهضت الدراما بها منذ بداية التاريخ، وحتى قبل ان يعرف ارسطو الدراما بخطه المستقيم الشهير « بداية ووسط ونهاية» تتخللها أزمات وعقبات، وذروة، ثم تصل للحلول، وهو خط لو وضعناه على أي تجربة لأي بلد، او أي شخص، لوجدناه ينطبق عليه، ولا يخلو هذا الخط من ثنائية الجمال والقبح، الخير والشر.
اذن لننتصر للدراما في توثيقها لمهمة نشر الجمال والتصدي للقبح بكل اشكاله.