مايكل آيزنشتات
في الوقت الذي يهدّد فيه ردّ الجيش الإيراني على حملة «الضغط الأقصى» الأميركية بإطلاق شرارة صراع أوسع نطاقاً، على صانعي القرار في الولايات المتحدة أن يأخذوا في الاعتبار العبر التي استقوها من المواجهات العسكرية السابقة. ففي عدة أحداث على مدى العقود الثلاثة الماضية، تعاملت واشنطن مع تحديات مماثلة من التصعيد والإكراه والردع، بما فيها عمليات القوافل البحرية خلال الحرب الإيرانية -العراقية، والمساعدة المهلكة التي قدمتها طهران للجماعات المسلحة الشيعية التي «تقاوم» احتلال الولايات المتحدة للعراق، وحملات الضغط المتنافسة التي سبقت الاتفاق النووي المبرم عام 2015.
عمليات القوافل الخليجية
(1987 – 1988)
رداً على الهجمات الإيرانية بواسطة زوارق صغيرة ضد عمليات النقل البحري المحايدة خلال المراحل الأخيرة من الحرب الإيرانية -العراقية، أطلقت الولايات المتحدة «عملية الإرادة القوية» في تموز/يوليو 1987 لمرافقة ناقلات النفط الكويتية التي تم تغيير علمها في الخليج العربي. ومع بدء العمليات، حذّرت إدارة الرئيس ريغان إيران من مهاجمة القوافل بصواريخ «دودة القز» أثناء عبورها مضيق هرمز. وافترضت الإدارة الأميركية أن وجود مجموعة حاملات الطائرات «يو أس أس كيتي هوك» من شأنه أن يردع إيران عن القيام بأي خطوات مضادة.
غير أنه في حين أن إطلاق عمليات القوافل قد دفع الإيرانيين إلى الحد بنحو كبير من هجماتهم المنفذة بزوارق صغيرة، إلا أنهم سارعوا إلى تحدي الولايات المتحدة بنحو غير مباشر، ففي أثناء توجه القافلة الأولى أصيبت ناقلة النفط «أس أس بريدجتون» بلغم بحري كان مزروعاً بنحو سري. ونظراً إلى الأضرار المحدودة وعدم سقوط ضحايا والرغبة في تجنب التصعيد، رفض المسؤولون الأميركيون الرد على هذه الحادثة.
لكن في غضون أشهر، عزّزت طهران هجمات القوارب الصغيرة وعمليات زرع الألغام على حد سواء. وفي أيلول/سبتمبر 1987، ضبطت القوات الأميركية سفينة «إيران اجر» عندما كانت تزرع الألغام في المياه الدولية، فقامت بتدميرها واحتجزت طاقمها. وفي الشهر التالي، أطلقت قوات النظام الإيراني صاروخين من نوع «دودة القز» على ناقلة نفط تم تغيير علمها في المياه الكويتية متجنبةً الخط الأحمر الذي رسمته الولايات المتحدة من خلال تنفيذها الهجوم على مقربة من مضيق هرمز. وربما من أجل إخفاء ضلوعهم، استعمل المهاجمون صواريخ «دودة القز» عراقية كان قد تم الاستيلاء عليها من شبه جزيرة الفاو المحتلة. وردّت الولايات المتحدة بتدمير منصتي نفط إيرانيتين استُخدمتا لدعم الهجمات؛ وانتقمت إيران بتوجيهها ضربة جديدة بصواريخ «دودة القز» على محطات النفط الكويتية التي لم تصب هدفها بل سقطت بدلاً من ذلك على بارجة خادعة.
وبعد أن تبنت واشنطن تكتيكات أكثر حزماً، أطلقت إيران عملية زرع ألغام جديدة في شباط/فبراير 1988. فقد اصطدمت المدمرة «يو أس أس سامويل ب. روبرتس» بلغم بعد شهرين، مما دفع البحرية الأميركية إلى تدمير منصتي نفط إضافيتين استُخدمتا لدعم العمليات الإيرانية. ورداً على ذلك، هاجمت القوات البحرية الإيرانية عدة سفن حربية أمريكية، مما دفع الجيش الأميركي إلى إطلاق «عملية السرعوف المصلي». وخلال هذه العملية، أغرقت البحرية الأميركية قارب صواريخ وفرقاطة و قارباً صغيراً تابعة لإيران، كما ألحقت أضراراً بفرقاطة ثانية وبالعديد من القوارب الصغيرة التي واصلت القتال رغم الصعوبات التي واجهتها. وكان ذلك بمنزلة نهاية عمليات زرع الألغام الإيرانية، ومع تحوّل الحرب البرية ضد الجمهورية الإسلامية، تراجعت وتيرة الهجمات على سفن الشحن إلى حدّ كبير طوال فترة القتال. وفي تموز/يوليو 1988، وخلال إحدى هذه العمليات التي كانت تخف وتيرتها على نحو متزايد، أسقطت السفينة الحربية «يو إس إس فينسين» بشكل غير متعمد طائرة ركاب تابعة للخطوط الجوية الإيرانية من طراز «إيرباص» معتقدةً أنها كانت طائرة مقاتلة. وقد هلك جميع الركاب البالغ عددهم 290 مسافراً، لكن إيران ظنت على ما يبدو أن العملية كانت مقصودة. وقد ساهم التصور السائد بأن الولايات المتحدة كانت تدخل الحرب إلى جانب العراق في إقناع طهران بإنهاء الصراع. باختصار، لم يؤدِ التدخل الأميركي الأولي إلى ردع إيران، ولم يسهم ضبط النفس الأميركي سوى في زيادتها جرأةً. فقد تحدت طهران الولايات المتحدة بوسائل غير مباشرة (حقول الألغام المزروعة سراً)، وتجنبّت الخطوط الحمراء الأمريكية باستخدامها صواريخ ضد السفن التي تم تغيّر علمها ولم تعد تحظى بالمرافقة، وزادت هجماتها على سفن الشحن غير المرافقة التي لم تشملها عملية تغييير الأعلام. ولم يتراجع النظام إلى أن أصبحت تكاليفه باهظة. وفي الوقت نفسه، يبدو أن التدخل الأميركي حال دون تعرّض القوافل لهجمات مباشرة، وأرغم إيران على انتهاج تكتيكات أقل فعالية، واسهم في نهاية المطاف في التوصل إلى حل دبلوماسي للقتال -برغم أن مجموعة من الانتصارات العراقية المدمرة على أرض المعركة اسهمت في هذه النتيجة وميزت هذه الأحداث عن الأزمة التي نشهدها اليوم.
الحرب بالوكالة ضد القوات الأميركية في العراق
(2003-2011)
في أثناء احتلال الولايات المتحدة للعراق، قام «فيلق القدس» التابع لـ «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني بتسليح وتدريب وتمويل ميليشيات عراقية وجماعات متمردة قتلت أكثر من 600 جندي أميركي. وكانت طهران تأمل على ما يبدو في تقييد القوات الأميركية، وتقويض رغبة أميركا في خوض مغامرات عسكرية إقليمية إضافية، ومساعدة وكلائها على طرد الولايات المتحدة في النهاية من العراق. ففي ظل احتماء القوات الأميركية في بلد مجاور وازدياد التحديات بوتيرة مرتفعة، كانت إيران مستعدة لتحمل مخاطر كبيرة.
من جهتها، سعت واشنطن إلى عرقلة جهود طهران مع تجنب التصعيد في الوقت نفسه، لذلك تصرفت عموماً بضبط النفس. وقد اعترض الجيش الأميركي بانتظام شحنات الأسلحة الإيرانية، وبعد إرسال مذكرة تحذيرية، لم تؤخذ على محمل الجد، اعتقلت عملاء بارزين في «فيلق القدس» في عدة حوادث: اثنتان في بغداد (كانون الأول/ديسمبر 2006) وخمس في أربيل (كانون الثاني/يناير 2007) وأخرى في السليمانية (أيلول/سبتمبر 2007). كما تمّ اعتقال عميل لـ «حزب الله» يعمل لصالح إيران (تموز/يوليو 2007). وقد تسببت تلك الاعتقالات بدفع إيران إلى السعي لإجراء محادثات مباشرة (كانت غير حاسمة) مع ممثلي الولايات المتحدة في بغداد وتسببت في قيام «فيلق القدس» بتقليص وجوده في العراق بنحو كبير. كما هدّدت الولايات المتحدة سراً بالقيام بعمليات عسكرية ضد الهجمات التي قامت بها الجماعات الموالية لإيران، والتي شملت ضربات صاروخية تعرضت لها السفارة الأميركية في بغداد في نيسان/أبريل 2008، وهجمات صاروخية استهدفت عدة قواعد أميركية في حزيران/يونيو 2011. وقد أسفر الهجوم الأخير عن مقتل 15 جندياً. وفي كلتا الحالتين، توقفت الضربات بعد تحذيرات أميركية صارمة. وعموماً، لم تسفر جهود واشنطن لتقييد الدعم الذي تقدّمه إيران للوكلاء العراقيين إلّا عن نتائج متواضعة. فاعتقال عناصر من «فيلق القدس» أرغم طهران على تغيير أسلوب عملياتها ومنحها حافزاً محدوداً لتجديد المساعي الدبلوماسية. وتسببت التهديدات السرية بالتصعيد، إلى دفع إيران مرتين على التراجع. لكن الإجراءات الأميركية فشلت في النهاية في وقف دعم طهران للهجمات على القوات الأميركية أو الحدّ من تزايد نفوذها في العراق. علاوةً على ذلك، لم تبذل طهران أي جهد لإخفاء دورها: على سبيل المثال، غالباً ما بقيت شعارات الشركة المصنّعة ولوحات البيانات بارزة على الأسلحة التي نقلتها إلى الجماعات الشيعية المسلحة. وكانت الحيطة التي وفرها الوكلاء السريون أكثر أهمية على ما يبدو لإيران من القدرة على الإنكار؛ فقد اعتبر النظام بنحو صحيح أن الولايات المتحدة لن تردّ عسكرياً على عمليات ينفذها وكلاء حتى عندما تكون الرعاية الإيرانية واضحة. مايكل آيزنشتات زميل «كاهن» ومدير برنامج الدراسات العسكرية والأمنية في معهد واشنطن. ويود أن يعرب عن تقديره لـ ديفيد كريست و غريغوري جايلز، اللذان أفادا بعملهما كثيراً هذا المرصد السياسي.
معهد واشنطن