عبد الغني سلامة
في برنامجه الشيّق «الدحيح»، قدّم أحمد الغندور مادة علمية غنية عن النفط، وتأثيراته المختلفة على البلدان، ونظراً لأهمية الموضوع أحببتُ نقله للقراء، لتعميم الفائدة.
النفط مادة موجودة في الطبيعة، وتعد من أهم الموارد الطبيعية لأي بلد، ومن أكبر مصادر الطاقة في العالم، لذا هي سلعة بالغة الأهمية والتأثير. ومثل أي سلعة أخرى، إذا أُحسن استخدامها تصبح نعمة كبيرة، وإذا أُسيء استخدامها تتحول إلى نقمة ولعنة، ولدينا مثالان سريعان من خارج البيئة العربية؛ الأول: النرويج، التي استطاعت من خلال مدخولات النفط أن تصبح في مقدمة الدول من حيث جودة الحياة وتوفير الخدمات والرفاهية والاستقرار السياسي والاقتصادي.. حتى أنها أنشأت صندوق ادخار وطنياً، تجاوزت قيمته 800 مليار دولار. المثال الثاني: فنزويلا، والتي رغم امتلاكها 300 مليار برميل بترول احتياطي، وكونها رابع دولة في «الأوبك» من حيث التصدير، إلا أنها تعاني من تضخم رهيب، وارتفاع في الأسعار، وتدنٍ بالخدمات، وبطالة بمعدلات مخيفة، فضلاً عما تشهده من اضطرابات سياسية وقلاقل أمنية.
من الناحية الاقتصادية، فإن أكبر خطأ تقع فيه الدول النفطية اعتمادها على النفط مصدراً أساسياً ووحيداً، وفي هذه الحالة، تكون ميزانية الدولة معتمدة على النفط بنحو أساس، فإذا هبط سعر برميل النفط يحصل العجز تلقائياً، لأنه في حالة هبوط الأسعار، ستقل الواردات المالية للدولة، ما يعني توقف أو تعثر المشاريع والخطط والبرامج الوطنية، وعجز الدولة عن تأمين خدماتها الأساسية، وهذا تنشأ عنه عادة اضطرابات سياسية واجتماعية وقلاقل وفوضى أمنية، خاصة أن العجز المالي، سيؤدي إلى عجز أو انخفاض حاد في القدرة على الاستيراد، وبالتالي سيعاني المواطن من نقص في عدد كبير من السلع، أو ارتفاع أسعارها.
وحتى في حالة ارتفاع سعر النفط، وثباته عالمياً، أي في حالة الرخاء، فإن الدول النفطية من الممكن أن تقع في الخطأ الثاني والقاتل، وهو بسبب انشغالها بالبترول واستخراجه وصناعته وتصديره، واستسهال الحصول على الأموال بهذه الطريقة، ستنشغل الدولة عن بقية القطاعات والمصادر الأخرى، مثل الزراعة والصناعة، ففي هذه الحالة بدلاً من تركيز الدولة على الإنتاج الزراعي والصناعي فإنها تفضل الاستيراد، لسهولة الأمر وتوفر الأموال، وهذه السياسة خطرة. وهذا ليس مجرد تخمين، فقد لوحظ أنّ العائدات النفطية في الدول النامية كانت دوماً تحدّ من التطور الاقتصادي والاجتماعي، خاصة عندما تكون شركات النفط مملوكة للدولة، ما يعطي الحكام حرية التصرف في العائدات المالية الهائلة، التي غالباً ما تكون مرتبطة بالفساد.
في كتابه «نقمة النفط» يوضح الباحث مايكل روس أنّ امتلاك الدول لشركات النفط، كما حصل في سبعينيات القرن الماضي، إضافة إلى الطفرة في أسعار النفط، قد أديا إلى إيذاء مجتمعاتها، والحد من قدرتها على التطور الاقتصادي والاجتماعي، وإلى غياب العدالة الاجتماعية في توزيع العائدات، ويخص بالذكر الحياة السياسية، ووضع المرأة في الدول العربية والإسلامية.
ولا تقتصر أخطاء بعض الدول النفطية على إهمال الزراعة والتنمية الصناعية، حيث أنها تلجأ، بسبب تدفق الأموال النفطية، إلى التركيز على المشاريع ذات الطابع الشكلاني، والتي لا تتضمن محتوى تنموياً حقيقياً، كالاهتمام بشكل المدن الظاهري، مثل العمارات الشاهقة، والجسور العملاقة، والطرق السريعة، وغير ذلك من إنفاق ترفي.. وبسبب تدني سعر البنزين، وتوفر الأموال، يزيد الاعتماد على السيارات الخاصة في التنقل، حيث يكون بمقدور كل مواطن اقتناء سيارة أو أكثر، وهذا يؤدي إلى إهمال قطاع النقل العام (سكك حديد، باصات عامة…)، وهذه كلها من مظاهر التشوه الحضاري.
الأمر الآخر، يؤدي تصدير النفط وتدفق المداخيل المالية إلى تدفق حاد للعملة الأجنبية، ما يرفع قيمة عملة البلد، وبالتالي يصبح التصدير صعباً، لأن قيمة السلع غالية في الأسواق الخارجية. وإذا قل التصدير يزيد الاستيراد لضمان توفر السلع، وهذا يضر بالصناعات المحلية، لأنها ستكون عاجزة عن التصدير، وفي نفس الوقت عاجزة عن منافسة السلع والبضائع المستوردة؛ وهذا بالنتيجة يؤدي إلى تقويض وانهيار الصناعات الوطنية.
ولكن أثر البترول لا يقتصر على الاقتصاد والتنمية، بل يمتد ليؤثر على الحياة السياسية والاجتماعية، ولأن طبيعة البترول الاقتصادية تختلف عن بقية القطاعات، سيكون تأثيره أعمق على الدولة والمجتمع.
ميزة النفط أنه يستطيع إنتاج أموال كثيرة، بأيدي عاملة قليلة، خلافاً لقطاعات الإنتاج الأخرى، التي تعطي أموالاً أقل، وتحتاج أيدي عاملة أكثر، مثلاً قطاع صناعة النسيج، يستثمر 13 ألف دولار لكل عامل، في حين أنّ شركات البترول تستثمر 3 ملايين دولار لكل عامل، وهذا فرق كبير جداً، لذلك، بسبب الاعتماد على البترول تزداد معدلات البطالة، أو أن قطاع البترول لا يساهم في حل هذه المشكلة بشكل فعال. ومن ناحية ثانية، فإن العمليات التصنيعية الأخرى تحتاج إلى مواد خام من قطاعات أخرى، وبالتالي زيادة التبادل التجاري الداخلي، ما يعني عمالة أكثر، وحركة اقتصادية أنشط.. بينما البترول هو نفسه مادة خام، ولا يحتاج قطاعات أخرى، ما يقلل من نشاط الدورة الاقتصادية، وهذا يزيد من البطالة.
من الناحية الاجتماعية، فإن زيادة إنتاج البترول، خاصة في دول العالم الثالث، كانت سبباً إضافياً في تعميق هيمنة الثقافة الذكورية على المجتمع، لأن صناعة النفط لا تحتاج بالضرورة أيدٍ عاملة كثيرة، ولا تحتاج مشاركة المرأة، بل إن صناعة النفط تضرب القطاعات الإنتاجية التي تشتغل بها المرأة مثل الزراعة والحرف اليدوية والمشاريع الصغيرة، بسبب عدم حاجة الأسرة لعمل المرأة، وعدم حاجتها مشاركتها زوجها في تحمل المصاريف؛ لأن مدخول الزوج صار كافياً وأكثر، وبالتالي ستظل المرأة في البيت، وسيظل الرجل هو المعيل الوحيد، وبالتالي المتحكم، الأمر الذي أعاق عمليات تحرير المرأة، وقلل مشاركتها في الحياة العامة.
من الناحية السياسية، فإن الحكومات التي تعتمد على النفط، تزيد مواردها المالية، وهذا يمكّنها من زيادة وتحسين خدماتها، دون الحاجة لفرض ضرائب على المواطنين، وهذا يسهل على الحكومة البقاء في السلطة، لأن الشعب غير متضرر من سياساتها الاقتصادية، بسبب الرخاء. وبسبب هذا الرخاء لن تتوفر المبررات التاريخية لظهور النقابات والأحزاب العمالية.
جريدة الايام