«محطات» حميد الحريزي

مؤيد البصام

رواية محطات للكاتب والشاعر والمحلل السياسي والناقد الادبي حميد الحريزي، تتشكل في اسلوبها وما تطرحه من افكار، بما لهذه الصفات التي يمتلكها ويتعامل بها ثقافيا، وعلينا من هنا اخذ كل هذه المحمولات بالاعتبار قبل الشروع في قراءة روايته التي جاءت بثلاث اجزاء وهي (العربة) و (كفاح) و (البياض الدامي) لما لهذه العلامات والانسحاق الفكرية من اهمية في بناء اسلوب الرواية ومجرى السرد فيها وتقسيماتها وحركة الشخوص، والافكار التي طرحتها.
العنوان الرئيسي، (محطات) دلالة واشارة تتطابق مع ما ستقدمه الرواية من احداث تأخذ ابعادا مختلفة في كل حقبة يمر بها البطل او ابطال الرواية على الرغم من تسلسلها التاريخي المبطن الذي يبدئ من بداية احتلال العراق من قبل بريطانيا في بداية القرن العشرين وينتهي بعودة الاحتلال في بداية القرن الواحد وعشرون من قبل الولايات المتحدة الامريكية. والعنوان دلالة على الحركة التاريخية التي اتسم بها بناء الرواية وحركة السرد، وما انطوت عليه كأرشيف ثقافي لا حصاء الحوادث ورصدها، ومناقشتها ومعرفة اسبابها واهدافها ومن ثم طرح نتائجها، ودرس حركة المجتمع وسلوكيات افراده ومؤسساته، وكأنه اراد الاحاطة بكل ما يمت بصلة لحركة ابطاله ووقائع الحياة التي تمت لهم بصلة او التي اثرت او ستؤثر في تفسير الواقع الذي ناقشه عبر تصورات عامة وخاصة. واخضع السرد لجميع وقائع الحياة، وهي رواية تتقارب مع الروايات الملحمية التي كتبت عن تاريخ الشعوب والتحولات في حياتها من خلال تاريخ الاشخاص كما في ثلاثية نجيب محفوظ وحياة سي السيد وابناءه. او ملحمة تولستوي (الحرب والسلام) والكثير من الاعمال التي تناولت حياة الشعوب عبر شخصياتها خلال حقب تاريخية اثرت على مجمل البناء والتكوين لهذه الامم، كما تحدث الحريزي عن مجمل التحولات في تاريخ العراق من الاحتلال (العثماني) ليحل محله بأفكار العصر الحديث الاحتلال الانكليزي، وكيف صارع الشعب العراقي الاحتلال الجديد ما بعد العثماني بقواه الوطنية، وأنتزع سيادته المنقوصة وصولا إلى الاحتلال الامريكي الاجد عام 2003. مكرسا الرواية لسرد تاريخ نضال الحزب الشيوعي كقوة نضالية تدافع عن الفقراء والمعدمين بقيادة العمال والفلاحين لبناء دولة المساواة حسب الفكر الشيوعي، الذي جاءت به النظرية الماركسية.

اللغة التي استعملها في السرد…
استعملت اللغة الشعبية الدارجة في اعمال قليلة في الادب العراقي ولعل كتاب فترة الاربعينيات والخمسينيات هم الاكثر كتابة باللغة الدارجة، لما لها من وقع حسي في موسيقى السماع المعبرة عن احاسيس عفوية، وهي محاولة لنقل مشاعر ابطاله بصدق وعمق الاحساس، فجاءت الرواية بين اللغة العربية الفصحى مستخدما السلاسة وبين اللغة الشعبية العراقية الدارجة، ليجعل العمل واقعة تقترب في مشاعرها من احاسيس المتلقي، وقد تكون بعض الكلمات صعبة التحول وانت تتحدث عن افراد يمتون للمجتمع من الطبقة غير المتعلمة…

تحولات البطل من تحولات الواقع…
اننا ازاء عمل ملحمي قاده الحريزي تحت عنوان بطله ( مظلوم ) الذي تحولت حياته من الريف الى المدينة وتحول اسمه مع التحولات الدراماتيكية في حياته وحياة المجتمع، وهي فترة تحول العراق من الاقطاع والريف الى حياة المدينة وترسيخ العلاقات التجارية ( الكمبردورية ) التي ثبتها الانكليز بعد احتلالهم العراق، لتشكل بناءات جديدة للمجتمع والانسان العراقي، مما يعني انه اختط بناء روايته على ضوء الحركة التاريخية في التحولات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية التي حدثت للشعب العراقي بعد احتلاله من قبل بريطانيا، وهذا ما نجده في تحول وتغير نمط حياة البطل على ضوء التحولات الكبرى التي وقع فيها العراق، من نهاية الاقطاع في 14 تموز 1958 على ضوء قانون الاصلاح الزراعي الذي وقع بين معاداة القوى الرجعية له والاخطاء التي ارتكبت في تطبيقه على ارض الواقع، وبداية حياة جديدة على ضوء خضوعه لما خطط له الاستعمار البريطاني بدمج السوق العراقية بالسوق الرأسمالية، واجتياح العقلية الكمبردورية في حياة الشعب العراقي والتحول البطيء او المعدوم بعض الاحيان في حياة الريف والبادية نحو التمدن، وزحف الريف الى المدن، أننا أجزاء تاريخ ولكنه لم يكتب كتاريخ وانما على ضوء قيم السرد وحكاية حياة ونضال ابطاله، مع الاخذ بنظر الاعتبار محاولات الحريزي الابتعاد عن المباشرة في السرد، الا ان الاحداث كانت تجره للحديث المباشر ولم يخل هذا المسار في حركة السرد التي اختطها من بقاء جمالية السرد ضمن حدوده على الرغم من المباشرة في سرد بعض الاحداث.

البطل المتعدد الصفات…
عندما نقرئ حركة سير الشخوص يقف امامنا ما حاول المؤلف ان يقدمه لنا البطل المتعدد الصفات، وبمختلف الاشكال التي ظهرت في تاريخ عالم السياسة العراقية، وهذا ما يجعلنا ندعي بانها رواية سياسية اكثر منها اجتماعية على الرغم من اختلاط السياسي بالاجتماعي، فإبطاله على الرغم من تسليط الضوء على حياتهم السياسية بالذات الا ان الحياة الاجتماعية والفكرية كانت حاضرة ولو باقل مما تتحدث الرواية عن عالمهم السياسي، والتحولات التي رافقت هذه الحياة أن كانت على الصعيد العاطفي او الاجتماعي او الاقتصادي تشكل جزء مهم في بحث مسار السرد في حياة البطل (مظلوم )، أن اختيار الحريزي بطله من قاع المجتمع من الطبقة الرثة، (على قول ماو ) التي خرجت من المجتمع الزراعي الى المدينة لتقع وسط البراءة التي يحملها أبناء الريف والمخاتلة التي يعيشها أبن المدينة الفرد بروح الربح والخسارة، ولكنه يبقي بطله محافظا على نقاءه النضالي على الرغم من كل المغريات التي صاحبته، مظلوم هو صورة لعشرات من ابناء العراق الذين رزحوا وما زالوا تحت خط الفقر والعوز والحرمان وينتظرون الفرج الذي لم يأتي بسبب الحكومات المتعاقبة على الحكم في العراق والتي كانت تعمل لذاتها ودائرة محيطها قبل ابناء شعبها، ونقل لنا ببساطة حركة الحياة لهذه الشريحة من المجتمع والتي تمثل الاكثرية، واوضح الفرق بين اخلاصها للوطن وبين النفس البرجوازي الذي سلم الوطن للمحتل، في مجمل التحولات التي تحرك ضمنها البطل والشخصيات الاخرى، كان الحريزي يؤشر على العلامات الفارقة بين المخلصين لمبادئهم ونضالهم من اجل الشعب وبين من باع ضميره وارتضى وامتهن الدعارة بأشكالها السياسية والاجتماعية والجنسية ليحقق مآربه.
استطاع المؤلف ان يضعنا بشكل او آخر على النبض الذي يتحرك به الشارع العراقي على الرغم من كونه محصورا بفئة معينة دون الفئات الاخرى ( سناتي على ذلك في النهاية ) من خلال حركة ابطاله مستخدما التضمين والاعادة ( الفلاش باك ) والذكريات، من اجل ايصال الفكرة الرئيسية التي حملتها الرواية وهي معاناة الطبقة المسحوقة ونضالها الذي ذهب دون ان يقدم نتيجة نظرا للصراعات بين الفئات السياسية وفشل القيادات السياسية بمختلف افكارها وبالذات القيادات الشيوعية، في قيادة العمل النضالي على اساس الكفاح لبناء دولة المساواة، وليس المهادنة للوصول الى سدة الحكم حتى لو كان مشاركة مع المحتل والاحزاب الرجعية والمتاسلمة، واعداء حزب الطبقة العاملة. .
تعتبر رواية ( محطات ) من الروايات ذات النفس الملحمي كما اسلفنا، تحمل تاريخ نضال شعب ولكن من وجهة نظر واحدة ، هي وجهة نظر نضال الحزب الشيوعي العراقي، بينما اغفل الراوي حركة النضال لبقية الحركات السياسية التي شاركته النضال في كل العهود بغض النظر عن شكل هذا النضال هل هو متسق مع ما نؤمن به او نخالفه، وهذا ما يؤخذ على الرواية في عدم الحيادية والموضوعية من الحركات الاخرى، التي هي احدى صفات الراوي كما نجدها مثالا وليس حصرا في رواية كازنتزاكي ( الاخوة الاعداء )الصراع بين البيريات الحمر والبيريات السود، او (الحرب والسلام ) لتولستوي، واعجاب أحد أبطاله بالمحتل نابليون بونابرت، وفي الملاحم التاريخية وفي كل هذه الروايات على الرغم من انحياز المؤلفين لفئة معينة، لكنهم تخلوا عن السباب واطلاق الالقاب والصفات المشينة على غرمائهم في عالم السياسة، وترك الامر للقارئ ليحكم واعطاءه الدور الذي ينحاز به ويحكم، وهو ما يجعلنا القول لولا هذا الانحياز الفئوي لشكلت رواية (محطات ) احدى الملاحم في تاريخ الرواية العراقية والعربية. خصوصا وقد اتخذت موقفا رائعا من الاحتلال ومن ايد وناصر الاحتلال، وحللت الموقف بما يمثل وجهة نظر اغلبية الشعب الرافض للاحتلال.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة