بصدد “النظرية النقدية”

يستعمل مصطلح النظرية النقدية في العلوم الاجتماعية ليشير الى نظريتين مختلفتين من حيث النشأة والتاريخ.
من حيث التاريخ فان النظرية النقدية نشأت او انبثقت من النظرية الاجتماعية اما النشأة فانبثقت من النقد الادبي.
التطورات التي طرأت على مناهج العلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية استطاعت ان تزيح بعض الفوارق والحواجز ما بين النظريتين، وأصبح هناك تداخل بين النقد الادبي الذي يدرس بنية النص وبين الدراسات التي تتعلق بالمجتمعات البشرية والأنظمة التي تسود فيها.
وبناء على ما تقدم فان مصطلح النظرية النقدية بات شائعا جدا، إضافة لكونه مصطلحا واسعا يغطي مجالا واسعة من النظريات العلمية التي تتناول منهجية دراسة العلاقات بين المكونات سواء كانت مكونات أدبية نصية أم مكونات اجتماعية أنثربولوجية وهي غالبا ما تندرج ضمن نظريات ما بعد الحداثة.
رسم آلن هاو في كتابه النظرية النقدية الخطوط العريضة لما بذله هور كهايمر من جهود أولى بوضع نظرية ديالكتيكية تقف إزاء نظرة سلفه غرونتبرغ الوضعية “الاستقرائية”، غير ان النظرة الديالكتيكية التي قدمتها النظرية النقدية لم تقتصر على الماركسية الوضعية حسب، بل تعداها أيضا الى وجودية تلك الفترة.
ويستكشف هاو في فصل آخر الطريقة التي سعى من خلالها يورغن هايرماز منذ أواسط ستينيات القرن العشرين الى إعادة بناء النظرية النقدية في اتجاهات تتغلب على التشاؤم والتناقض في اعمال اسلافه.
يذكر هاو انه في فصول الكتاب أراد ان يكشف للقارئ أوجه النظرية النقدية المختلفة، مشيرا الى طبيعتها المبرقشة متعددة الألوان، وتطورها التاريخي، غير ان اهم ما آمله ان أكون قد أشرت إليه هو صلتها بالراهن.

تأليف: آلن هاو
ترجمة: ثائر ديب

الحلقة 12

كا أدورنو في تناوله الخاص، يبالغ بالأشياء كيما يجعلها واضحة. بل إنّه أعلن ذات مرة أنَّ “المبالغة وحدها هي الصادقة” (أدورنو وهوركهايمر 118:1972). ففي مجتمعٍ مشوَّه لا يمكن إبراز “معيارية” التشوّه الإمبريقية المزيفة إلا من خلال المبالغة. وهو لا يحاول أن يدرأ نتائج ومؤديّات ما يراه واسماً لعالمنا باللجوء إلى التحليل الإمبريقي “المجرّد” بل يسعى لأن يكشف ما يكمن خلف مظهر الأشياء المختلف. وما أريد قوله، في ضوء الثلاثين عاماً الاخيرة، هو انه لم يبالغ بما فيه الكفاية في حقيقة الأمر. فما خشي منه أدورنو هو أن يسيطر الشكل السلعي على الحياة برمّتها. وهو يقول بشأن الفيتشية الموسيقسة:
الموسيقى، بكل الصفات الأثيرية والرائعة التي تُنْسَب إليها، تعمل في أمريكا اليوم كدعاية للسلع، التي يجب على المرء أن يمتلكها كي يسمع موسيقا. وحين تُكْمَد الوظيفة الدعائية ذلك الكمد المتعمد في الموسيقا الحادة الرصينة، فإنها لا تلبث أن تبرز في الموسيقا الخفيفة… عددٌ لا يحصى من نصوص الاغاني الرائجة يطري الاغاني الرائجة ذاتها، مكرّراً عناوينها بأحرف كبيرة … ] حتى إنَّه [… لم يُبقِّ أقل قدر ممكن من المتعة.
وعند أدورنو، أنّ المستهلكين حين يشترون بطاقات حفلة موسيقية إنّما يتعبّدون المال الذي دفعوه لتلك البطاقات. فالمستهلك يحقّق نجاحاً للحفلة بشرائه البطاقة، وليس بإعجابه بالحفلة. وبلغة ماركسية، فإن القيمة التبادلية للسلعة قد حلّت شيئاً فشيئاً محلّ قيمتها الإستعمالية. فقيمة “الشيء” بالنسبة لنا تبدو على أنَّها قيمة التبادلية، التي هي في الواقع مّما يقرره السوق الرأسمالي. فنحن نتماهى مع نجوم “سلع” صناعة الثقافة، ونستمتع بهم كما لو أنهم يخاطبوننا شخصياً وبذلك نضحي بفرديتنا بجعل أنفسنا طيعة لهم تماماً. هكذا يكون سعر فرديتنا هو ثمن السلعة.
يصف جاك زايبيس (1994) هذه المسيرة من خلال تجربته الخاصة في التغيّر. فحين كان طالباً في أوروبا قبل ثلاثين عاماً، كان من السهل على الأوروبيين أن يمّيزوا أنه أميركي من الملابس التي كان يرتديها، ومن مشيته، وحركات جسده عموماً. أمّا الآن فالجميع يرتدون كما يرتدي الأميركيون، والأميركيون يرتدون كما يرتدي أيّ أحد آخر. وأحذية الجميع من أديداس أو تيمورلنغ أو نايكي، والقمصان تحمل دعايات تروّج لذاتها، وحتى المظلات والمعاطف تحمل شارات من نوع ما. أمّا حركات أجساد البشر والطريقة التي “يشيرون” بها فتبدو أيضاً ضرباً من المحاكاة للممثلين الذين يظهرون في الأفلام والمسلسلات التلفزيونية الشعبية من إلحاح على ما هو “حسّي” و “شهواني”. ويبدو الأمر كما لو أنّه ما من فجوة بين الفرد والسلعة؛ فالسلعة دسّت نفسها في بنية الشخصية وتغلغلت فيها وراحت توجه التفاعل وتقوده.
وأتذكّر، بالروحية ذاتها، أنني وابنتي البالغة إحدى عشرة سنة كنّا نتسوّق في محلّتنا ذات مرّة وأردتُ أنّ أدخل متجراً جدرانه من الحجر المطليّ بالكلس ويبيع الطلاء الحديث وورق الجدران. لكن إبنتي رفضت أن ندخل خشية أن يراها أحد من أصدقائها. وحين سألتها عمّا يجعل ذلك مشكلة قالت إنّها لا تريد أن تتعامل مع متجر كهذا. ولقد أذهلني أن أكتشف أن هؤلاء لا يهتمون بأن تكون الثياب من ماركة محدّدة وحسب، بل غالباً ما يضعون ماركة للمكان الذي يقطنونه هو ذاته ويشعرون بالصّغار شخصياً إن لم تكن الماركة الصحيحة.
غير أننا حتى لو إعتبرنا أنّ ضروب النقد التي وجّهها أدورنو إلى الثقافة الجماهيرية قد إلتقطت شيئاً مهماً بشأن الطبيعة المُسَلَّعَة التي تسم المجتمع الحديث، فإن ذلك ليس بالتنديد أو التشهير النخبوي بالثقافة الجماهيرية كما يدّعي من ينتقصون من قدر أدورنو. فلقد كتب أدورنو ضروب نقده وقوفاً في صف عموم الشعب دِفاعاً عن حقّهم بالفردية في عالم أغدق عليهم الوعود ولم يحقّق لهم سوى القليل. وكانت غاية أدورنو أن يحرِّص قرائه على تحدي الوضع القائم، وليس على أن يذعنوا لذلك الوضع.
ويمكن الإعتراض، بالطبع، بأنَّ البشر لا ينخدعون بصناعة الثقافة، وانّهم حين يشاهدون آخر أفلام هوليود أو المسلسلات التلفزيونية الخفيفة يدركون تمام الإدراك مدى تلفيق كل ذلك ويتخذّون منه مواقف نقدية ومُفكر فيها. غير أنّ أدورنو لايتلطف بالجمهور، (ذلك الجمهور الذي أنا واحد منه)، بل يقول إن على الجمهور ألا يكون ساذجاً فتُفْلح صناعة الثقافة. وما يريد معرفته هو لماذا يشعر مستهلكو صناعة الثقافة بأنّهم “مجبرون على شراء منتجاتها على الرغم من معرفتهم بحقيقتها؟” (أدورنو وهوركهايمر 167:1972).
والنتيجة التي يتوصّل إليها هي أنه بقدْر ما يسعى الأفراد في حيواتهم وراء الإشباع، فإن مكافأة العمل في مجتمع رأسمالي تتمثل بضروب الخداع والتدليس التي تمارسها صناعة الثقافة، تلك الصناعة التي تَعِدُ بالكثير لكنها إكراهية وقسرية على طريقتها، شأنها شأن “القلق الإقتصادي” الذي يكتنف العمل ويحيط به. فإذا ماكان معنى أن تكون فرداً “بارزاً” في مجتمعنا هو أن ترتدي ملابس معينة وتقضي إجازات معينة، فإنّ معنى أن تكون فرداً بإطلاق هو أن تستهلك هذه السلع حتى لو كنت تدرك حقيقتة أمرها.
ويرى أدورنو في تحليله لأعمدة الأبراج في الصحف (1994)، أنّ البشر يهتمون للنصيحة التي تقدّمها هذه الأعمدة دون أيّة معرفة محدّدة، أو إيمان، بالأساس الذي تقوم عليه هذه النصيحة. فهي تخاطبهم بلغة حياتهم اليومية، كأن تقول لهم إنّ هذا اليوم مناسب لأن يثمر ما بذلوه من جهد، أو أن ينتهزوا فرصتهم ويتحاشوا المواجهة مع من هم في السلطة. ومثل هذا النوع من النصيحة هو مسألة واقعية ويخاطب المخاوف وضروب القلق الواقعية الموجودة لدى الجميع. وهو يقدّم للبشر عزاءً ما في وجه عالم طارئ وعارض. ويطلب المطاوعة والإذعان بطريقة غير سلطوية، ولا يطالب البشر بأن يعملوا ضد حسّهم المشترك أو فهمهم الشائع. بل يطالبهم وحسب بأن يمتثلوا لحال الأشياء. وتخميني أن البشر الذين يقرؤون هذه الأعمدة (وأنا من بينهم) يتعاملون معها كمزحة، أو كشيءٍ “نشتريه” مع أننا ندرك حقيقته. وهي مثل السلع عموماً، تنطوي على ضرب من التجاذب، فهي تلبي حاجةً بطريقة لا أساس لها في الواقع. وكما أنّ النظام الرأسمالي هو نوع من “القَدّر” الذي يسرق مستقبلاً عن الفاعلين الذين يجعلونه يقع، هكذا يوفّر لنا ترتيب النجوم الذي يفوق الوصف شيئاً من الفهم الخيالي لموقعنا الشخصي في ترسيمة الأشياء الكبيرة. وإذا ما كانت آراء أدورنو تنتقد الثقافة الجماهيرية إلا أنّها آراء دقيقة لا تغفل بشكل أعمى عن هذه الثقافة.
وبهذا المنطق ذاته، فإنّ دفاع أدورنو عن الفنّ “الأصيل” أو “المستقلّ” كوزن مقابل لوزن الثقافة الجماهيرية لا يأتي على أنه ذلك البديل البسيط. وهو يرى أنّ كلا هذين الشكلين يحملان “وصمة الرأسمالية”؛ يحملان جميع الإفتراضات المشحونة طبقياً في رؤية العالم البرجوازية (أدورنو في بلوخ وآخرين 123:1977). بل إنّ أدورنو قد خشي من أن الفنّ المستقل ذاته راح يَنشد إلى عالم الثقافة الجماهيرية السلعيّ. فإذا ما كان الفنّ المستقل مستقلاً، فذلك لأن الرأسمالية قد أفسحت له المجال لأن يكون كذلك، مع الثقافة الجماهيرية بوصفها “وعيها الإجتماعي الرديء”، والتي تزوّدها “بما يشبه الشرعية” (أدورنو وهوركهايمر 1972:135). وعند أدورنو، إن الفنّ “المستقل” هو مقابل صناعة الثقافة، حيث يصف كلا هذين العنصرين بأنّهما “النصفين الممزقين” لشيء أفضل، ذلك الشيء الذي يعدُ بالحرية على الرغم من كونه “وسطاً مكسوراً” بينهما. وعلينا أن نقبل انّ قيمة الفنّ المستقل لا يمكن أن تُقرن بالخصائص الديمقراطية التي تميز الثقافة الجماهيرية في الظروف الراهنة على الأقل.
وثمّة شيء متناقض، بحسب الماركسية على الأقلّ، في زعم أدورنو أنّ الفن “المستقل” يفضح شيئاً قيماً عموماً فيما يتعلق بالشروط الظالمة التي تعيش فيها عامة الشعب، وحكمة أنّ الثقافة الجماهيرية التي يتمتّع بها البشر بالفعل إنّما تضطهدهم. لكن أدورنو يتمالك أعصابه ولا يتحاشى هذه القضية بل يطرحها ويتناولها. ويتمثّل الحل الذي يقدّمه، إذا ما كان لنا أن ندعوه حلاً، بالحفاظ على توتر ديالكتيكي بين الاثنين دون السعي وراء عزاء الحلّ. وبالنظر إلى ما نعرفه عن الثقافة في الخمسين سنة الأخيرة -حيث الأشياء تتسلع أكثر فأكثر- فإن ذلك ليس مثالاً على قصر النظر بل مثال على بعد النظر ووضوح الرؤية.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة