النهج الترامبي تجاه روسيا وانعكاساته على الأمن الأوروبي

آية عبد العزيز

شهدت الآونة الأخيرة عدد من الاتهامات المتبادلة بين الإدارة الأميركية والدولة الروسية خاصةً فيما يتعلق بمدى الالتزام بشأن المعاهدات الدولية المتعلقة بحظر انتشار الأسلحة النووية، وتجلت الاتهامات مع تولي الرئيس الأميركي «دونالد ترامب» السلطة، اذ أعلن الانسحاب من معاهدة القوى النووية متوسطة المدى، يوم الجمعة الموافق الأول من فبراير/ شباط 2019، مؤكدًا تعليق الالتزام ببنود المعاهدة، مشرطًا إمكانية التراجع عن القرار في حالة التزام روسيا ببنود المعاهدة، وتدمير جميع الصواريخ التي تمتلكها، ومنصات الإطلاق والمرافق ذات الصلة. (1)والجدير بالذكر، إنها لم تكن المرة الأولى التي يعلن فيها «ترامب» انسحابه بشكل أحادي من معاهدات دولية، أو اتفاقيات جماعية تجسدت على سبيل المثال في اتفاق باريس للمناخ، والاتفاق النووي الإيراني.

معاهدة (IFN) لتصدي سباق التسلح في أوروبا
أثار القرار حالة من الجدل والتبابين بشأن مستقبل الأمن الأوروبي، اذ تمثل المعاهدة التي وقعها الرئيس الأميركي «رونالد ريجان» والرئيس السوفييتي «ميخائيل جورباتشوف» في عام 1987، لمنع كلا البلدين من اختبار وإنتاج وحيازة الصواريخ الأرضية متوسطة المدى، كذلك التخلي عن اختبار ونشر الصواريخ النووية والتقليدية التي يتراوح مداها بين 500-5500 كم. (2)
وفي منتصف السبعينيات، حقق الاتحاد السوفييتي تكافؤًا استراتيجيًا مع الولايات المتحدة، بعد ذلك بوقت قصير، بدأ الاتحاد السوفييتي في استبدال صواريخ SS-4 وSS-5 الأقدم عمرًا باستخدام صاروخ متوسط المدى جديدة، SS-20، مما أدى إلى ما كان يُنظر إليه على أنه تغيير نوعي وكمي في الوضع الأمني الأوروبي.
وكان الصاروخ SS-20 متحركًا ودقيقًا وقادرًا على الاختفاء والنقل بسرعة. وقد سمحت مجموعةSS-20s التي يبلغ طولها 5000 كيلو متر بتغطية الأهداف في أوروبا الغربية وشمال أفريقيا والشرق الأوسط، ومن قواعد في شرق الاتحاد السوفيتي، ومعظم آسيا وجنوب شرق آسيا وألاسكا. (3)
لذا فقد جاءت المعاهدة على خلفية نشر الاتحاد السوفيتي هذه الصواريخ في أوروبا، الأمر الذي انعكس بنحو سلبي الأمن الأوروبي، حيث قام كل من حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة بنشر موازي لصواريخ مشابهة في أوروبا الغربية. وبحلول 1991، تم تنفيذ المعاهدة بنحو كامل بعد أن توافقت القوتين على تدمير مقدراتهم من الصواريخ المتوسطة المدى، وعليه فقد اعتبرت بمنزلة حجر الزاوية للتحكم العالمي في سباق التسلح الذي استمر إبان الحرب الباردة وساعدت في إنهاء هذه الحرب.

خلفية القرار الأميركي
لم يكن القرار الأميركي وليد اللحظة فقد هدد «ترامب» في أكتوبر/ تشرين الأول 2018، بالانسحاب من المعاهدة نتيجة السياسات الروسية التي اسهمت في خرق المعاهدة، التي تجلت في تصنيع صواريخ من نوع 9729، كما طالبت واشنطن في ديسمبر/ كانون الأول 2018 موسكو بتدمر الصاروخ المعدل، أو تعديله بما يتوافق مع بنود المعاهدة خلال 60 يومًا، حتى لا يتم تعليق المشاركة في المعاهدة من قبل الإدارة الأميركية. (4)
ومع بداية عام 2019 أعلن «ترامب» تعليقه للمعاهدة نتيجة عدم استجابة موسكو لها، تجسد ذلك في إصدار البيت الأبيض بيانًا على لسان «ترامب» قائلًا «سنمضي قدمًا مع بحث الخيارات الخاصة بالإدارة الأميركية لمدى إمكانية الرد العسكري على تحركات موسكو، بالتعاون مع حلف شمال الأطلسي وحلفائه الدوليين للتعويض عن أي ميزة عسكرية حصلت عليها موسكو نتيجة أفعالها غير القانونية». معربًا عن «تمسك الإدارة الأميركية بالرقابة الفعالة على انتشار الأسلحة التي يمكن التحقق منها وتنفيذها، وتشمل الشركاء القادرين على الوفاء بالتزاماتهم».(5) فيما اتهم وزير الخارجية الأميركي «مايك بومبيو» روسيا بانتهاكها بنود المعاهدة، ورفضها التراجع عن سياساتها التي من المؤكد إنها ستأثر على الأمن الأوروبي والعالمي بنحو كبير. وعليه فقد تم منح موسكو فترة تمتد إلى ستة أشهر لكي تتمكن من «إنقاذ الاتفاقية»، الالتزام الكامل ببنودها، مع إمكانية التفاوض بشأن موضوع مراقبة انتشار الأسلحة، لأن عدم التحرك الروسي في هذا الاتجاه سينعكس بشكل سلبي على مسيرة العلاقات الثنائية بين البلدين وهو ما أوضحه «بومبيو».

ردود الفعل الدولية
1. الموقف الروسي، جاء الرد الروسي إبان التهديدات الأميركية بضرورة تدمير الصواريخ المطورة لعدم موافقتها مواصفات المعاهدة، من وزارة الدفاع الروسية التي قامت بعمل مؤتمرًا صحفيًا بحضور ملحقين عسكرين أجانب عرضت خلاله الصاروخ المطور، مؤكدة التزامها الكامل بتنفيذ المعاهدة الخاصة بالصواريخ متوسطة المدى.
وفي سياق عملية الانسحاب الأميركي من المعاهدة، أوضحت موسكو عدم اعترافها بالقرار الأميركي لأنه قرار أحادي الجانب، ولأنه يعد باطلًا من الناحية القانونية، وأكدت وزارة الخارجية الروسية استعدادها لإنقاذ المعاهدة بكفاءة وفعالية، عبر المفاوضات ولكن ليس من خلال تدمير موسكو لأسلحتها المعدلة.
كما أشارت ضرورة البحث عن حل لتسوية القرار بين الجانبين، فيما قامت القيادية الروسية بتعزيز قواتها العسكرية على المتاخمة على حدود الغربية لألمانيا في مقاطعة كالينينجراد، ردًا على زيادة الناتو حشوده في منطقة البلطيق. (6)
وعلى الصعيد الأخر؛ طالبت موسكو واشنطن أيضًا اتخاذها خطوات عادلة وشفافة بما يتعلق بالحفاظ على المعاهدة، سيما فيما يتعلق بنظام «أيجيس» المضاد للصواريخ المنشور برًا، والذي تم نشره في رومانيا. (7)
2. الموقف الألماني، أعربت المستشارة الألمانية عن نيتها لخوض المفاوضات، لتقارب وجهات النظر، مع استغلال مدة الانسحاب الرسمية التي تقارب الستة اشهر لإجراء مزيد من المناقشات. وأوضحت أن موسكو قامت بانتهاك المعاهدة ولكن يظل الأهم هو إبقاء مساحة للحوار بين الجانبين. (8)
3. موقف حلف شمال الأطلسي، تمثل موقف الناتو في الدعم الكامل لقرار واشنطن بالانسحاب من المعاهدة، داعيًا موسكو للاستفادة من فترة الانسحاب، لتؤكد التزامها ببنود المعاهدة. فيما أوضح البيان الصادر من الحلف إنهم مازالوا مستمرون في السعي لإقامة علاقات قوية مع موسكو.
كما إنهم يراقبون تحركات موسكو فيما يتعلق باستعمالها للصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى، لاتخاذ الخطوات اللازمة لضمان فعالية الموقف المشترك لدول الناتو «في مجال الردع والدفاع». معدا إن موسكو وحدها ستتحمل تكلفة الانسحاب الأميركي من المعاهدة، إن لم تف بالتزاماتها خلال مدة الانسحاب الرسمية، عبر تدمير الصواريخ المعدلة والمخالفة للبنود. (9)

مآلات القرار الأميركي
على الأمن الأوروبي.
يواجه الأمن الأوروبي عددًا من التهديدات والتحديات التي تتجلى في تراجع الدرع الأميركي في حماية مصالح القوى الأوروبية، وتنامت حدة التغيير في النهج الأميركي تجاه الأمن الأوروبي مع تولي الرئيس الأميركي «دونالد ترامب»، وانتهاجه سياسة قائمة على تبادل المصالح وعقد الصفقات بما يعزز من هيمنة أميركا قبل مصالح الجميع. تجسدت هذه السياسة في انسحابه من المعاهدة دون النظر إلى مصالح الدول الأوروبية التي صارت مهددة من قبل التحركات الروسية خاصة على حدود المتاخمة للحدود الأوروبية، مع التخوف من عودة سباق التسلح بشكل مختلف عبر إعادة نشر الصواريخ داخل الدول الأوروبية. وقد برر القرار على إنه لن يسمح لموسكو بتطوير قدراتها الدفاعية والصاروخية، كما إنه يتخوف مع عودة روسية كقوى عظمى، تنافس الولايات المتحدة مرة ثانية، وهو ما ترفضه واشنطن. علاوة على إن روسيا أصبحت فاعلًا دوليًا في كثير من الملفات المثارة في النظام العالمي مثل الملف السوري، والإيراني والأوكراني وأخيرًا الملف الفنزويلي.

الهوامش:
1 – «واشنطن تعلن رسميا تعليق التزامها بمعاهدة القوى النووية المتوسطة»، هيئة الإذاعة البريطانية، 1/2/2019.
2 – للمزيد أنظر مصطفى صلاح، «مخاوف متصاعدة .. الأمن العالمي في ظل الانسحاب الأمريكي من معاهدة «القضاء على الصواريخ (IFN)»، المركز العربي للبحوث والدراسات،
3- «Treaty Between The United States Of America And The Union Of Soviet Socialist Republics On The Elimination Of Their Intermediate-Range And Shorter-Range Missiles (INF Treaty)», U.S. Department of State.

4 – « واشنطن تعلن تعليق العمل بمعاهدة الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى»، روسيا اليوم، 2/2/2019.
5 – « بعد تعليقه العمل بمعاهدة الصواريخ. ترامب يهدد روسيا برد عسكري»، روسيا اليوم، 1/2/2019.
6 – «ردّا على تصعيد الناتو. روسيا تنشر فوجا إضافيا من مقاتلاتها على تخومه»، روسيا اليوم، 2/2/2019.
7 – «موسكو: المطلب الأمريكي بتدميرنا صواريخ 9729 مرفوض»، روسيا اليوم، 21/1/2019.
8- «ميركل: إذا غادرت واشنطن معاهدة الصواريخ سنبذل قصارى جهدنا لإجراء محادثات»، سبوتنيك عربي، 1/2/2019.
9- «حلف الناتو يعلن دعمه الكامل للخطوة الأمريكية بخصوص معاهدة الصواريخ مع روسيا»، روسيا اليوم،
المركز العربي للبحوث والدراسات

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة