ريسان الخزعلي
للمكان في التجربة الابداعية الكبيرة فعل روحي / ثقافي ، يبدأ ، ينمو ، يكبر ، ويترسب في الذاكرة لا شعورياً . يتناوب في الظهور بتردد غير منتظم في الكتابة طيلة حياة المبدع ،وبعد تراكم طويل ،وفي لحظة قدح مستطيرة يستجمع كل تردداته ويظهر ممسرحاً ، نافضاً غبار الزمن القديم كي يبدأ الزمن الجديد ، زمن الكشف الفني الابداعي الاخير محملاً بالجماليات ، جماليات المكان الباشلارية – في اشارة الى ( باشلار )وكشوفاته الجمالية في وعن المكان .
و/ أدونيس / الشاعر المفكر يستعيد المكان الاثير له في كتاب من الحجم الكبير ( 888 ) صفحة ،يستعيد / بيروت / رضاعة ً ومرضعة ً ( بيروت ثدياً للضوء ) .يجمع فيه كل كتاباته عنها ،شعراًونثراً من كل اعماله ومن خارجها ،منذ ستينيات القرن العشرين الى نهايات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين ، معللاً اختياره لبيروت ، كون علاقته معها علاقة تكوينيّة كيانيّة على حد قوله ، أقام فيها طويلاً بعد خروجه الاضطراري من سوريا مبكراً ، تكامل فيها وتأصل كثيراً ، واجترح نشاطه الابداعي الفاعل في الشعرية العربية ، كما اجترح تموجاته الفكرية وتحولاته الشاغلة . وهكذا كانت بيروت ( الثدي ) ودمشق الطيف العابر .
في هذا الكتاب / الوفاء ، كانت بيروت المستقرالروحي الابداعي ، يكاشفها بوضوحه بعد ان وضحت له ،وببراعة العارف جمع نثار ذاكرته الفضّي كي يُصيّروجوده وبيروت ثدياً للضوء : قصائد من اجل بيروت ، نحو ضوء بيروت ، امكنة تستضيء ببيروت ، شخصيات في افق بيروت ،سياسة بيروت ، حوارات بيروت ، استشرافات لعبث المكان البيروتي .
يقول ادونيس في نهاية مفتتح الكتاب : كانت بيروت أول واد ٍ أهيم ُ به بصفتي شاعراً بعد خروجي من موطني الأول ، نعم لقد همتُ في أودية كثيرة وما زلت هائماً تائهاً الى الان ؛ لكنَّ بيروت كانت هُيامي الدائم . لقد صارت علاقتي ببيروت كيانيّة ً ، اذ استحالت في داخلي لتصير جسدانيتي ، فأنا لست ُ الا من جسد بيروت ، انها الجسم الحاوي لنفسي المنكسرة ، لذلك لا يعدو امتدادها المكاني ان يكون سوى امتدادٍ لفيزيو لوجيتي أو عضويتي نفسها ، إنها لحمي الحيّ وفقاً لتعبير موريس ميرلو- بونتي . ها انذا بين وجود بيروت وعدمها صيرورة تتجه الى غايتها لتكتمل ، ما اجمل الاكتمال . انه رسول الفناء أو بالأحرى قد يتجلى الفناء نفسه في الاكتمال غيرَ أنّي بين الرسول والمرسل ضحيّة أو أُضحية .آثرت في هذا الكتاب ان أقدِّم للقاريء رؤيتي لبيروت شعراً ونثراً ، على امتداد تجربتي الثقافية كلّها ، لتستبين بيروت بعد تأمّلي فيها لأكثر من نصف قرن عالماً ذا فضاءاتٍ نهائية ، تخلقها اللغة في صورها المتنوعة.
وفي الشعر ، شعر ادونيس عن بيروت ، تكون بيروت ذاكرة البحروآخر الصور:
لو انَّ البحرَ يشيخ ُ
لاختارَ بيروتَ ذاكرة ً لهُ .
بيروت : آخر الصور ، سامروها ، اطيلوا السمر
انها تُجلس الموتى في حضنها وتقلّب أيامها ورقاً شائخاً ،-
احفظوا آخر َ الصور
من تضاريسها ،-
انها تتقلب في رملها في محيطٍ من الشرف
وعلى جسمها بقعٌ من أنين البشر .
في ( بيروت ثدياً للضوء ) يستحضر ادونيس الزمان والمكان كثنائية متلاصقة ، وكأن المكان وحدة الزمان ، والزمان وحدة المكان ، انه لا يقف على طللية كتلك التي في الشعرالجاهلي ووعي الشاعر الجاهلي ، انما يطالعنا بطللية الحضور المستمر، الحضور الشعري – النثري ، كونها المدينة المُثلى التي تستقدم الشعراء وتدخلهم اليها بعد ان تسكب العطر على رؤوسهم ، انها السُّكنى الانطولوجية للشعر وللشعراء بالمعنى الأعمق كما يقول ، ولذلك ينظر اليها وكأنها ثديٌ للضوء وليس الضوء ثديا لبيروت .
انَّ تدافع الصحو والذاكرة ، لم يفلت منهما النثار الفضي ،لأن المكان دائماً يحضُّنا على التفكير كما يقول مونتاني . وهكذا حضَّ ادونيس، ليكتب بيروت مكاناً في الزمان وزماناً في المكان .
في هذا الكتاب ، تتحقق الاجابة عن سؤال ادونيس الدائم : ايتها القصيدة ، هل سيبقى لي حظٌّ عندك ..؟.
– إنْ تكُ الروحُ موجودة ً ،
– فأنا أمسِ ، في رأسِ بيروت َ ،في الصالحية ِ،
– اعطيتها شفتيَّ ،
– ونمتُ على خصرِها .
– في (بيروت ثدياً للضوء )..، ماكانت بيروت مرضعةً للضوء فحسب ، انما مرضعة لأدونيس ايضاً . لقد اصبح المكان حليباً..، انهُ النثار الفضي…