مهدي عيسى الصقر يستوحي أجواء الحروب المفترسة في (بيت على نهر دجلة)
شكيب كاظم
كنت منحازاً الى الفن القصصي الذي يكتبه القاص والروائي العراقي المبدع مهدي عيسى الصقر، منذ بداياته التي قرأتها، مجموعته (غضب المدينة) الصادرة طبعتها الاولى والاخيرة عن مجلة (الثقافة الجديدة) عام 1960 مروراً بمجموعته القصصية الرائعة(حيرة سيدة عجوز) الصادرة بطبعة شخصية عام 1986، فضلاً على مجموعته (أجراس) التي اصدرتها دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد عام 1991 والتي احتوت على منتقيات من قصصه التي كتبها خلال المدة من عام 1950 وحتى عام 1988، مستلةً من مجموعاته (مجرمون طيبون) فضلاً على المجموعتين آنفتي الذكر، وهو ما فعله القاص والروائي العراقي المغترب عبد الرحمن مجيد الربيعي، إذ اصدر مختارات ومنتقيات من ما نشره من قصص قصيرة في كتاب حمل عنوان (سر الماء.قصص مختارة) اهداني صديقي الربيعي مشكوراً وهو في مغتربه التونسي ذاك، نسخة منه، بطبعته الثانية التي اصدرتها عام 1993 دار المعارف للطباعة والنشر بمدينة سوسة التونسية.
كنت منحازاً لقصص الصقر، وأراه قاصاً في الصف الاول من قاصي العراق ومبدعيه، لا بل قمة في عالم القص، فأنا ارى ان الانسان مُيَسَّرَُ لما خُلِق له! لما خلقه الله عليه، ولقد خلق الصقر قاصاً مجيداً، وما هذا بالشيء الهين ولا اليسير.
لكن الكثير من كاتبي القصة لا يكتفون بهذا الذي يسر لهم، بل يذهبون الى التجريب، تجربة كتابة الرواية، وجرب مهدي عيسى الصقر كتابتها، وطلع علينا عام 1990 بروايته الاولى (الشاهدة والزنجي) وكانت لا تزيد عن قصة مَطَّها الصقر ليصيرها رواية،ثم طلع علينا بروايته الثانية (اشواق طائر الليل) الصادرة طبعتها الاولى عن دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد عام 1995، والتي استوحى احداثها من السيرة الذاتية للشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب، والتي لا تتناقض مع رأيي بمثيلتها (الشاهدة والزنجي).
أمل بالعودة
إذ أقرأ روايته (إمرأة الغائب) الصادرة طبعتها الاولى عن دار المدى للطباعة والنشرعام 2004 والتي استوحت اجواء الحرب العراقية-الايرانية، وبقاء زوجة الغائب تمني النفس بعودة الزوج، لكنها لفرط اعتزازها بالزوج الجندي الغائب، الذي انتزعته الحرب من اجواء الاسرة لتحيلها الى خراب وكابوس يومي، هذه الزوجة الوفية، التي تظل تحيا على هاجس عودته، ترفض أية إشارة الى فقده، أو موته، بل تحيا على هاجس كونه أسيراً، وأنه سيعود ريثما تنتهي الحرب، وإذ تبدأ قوافل الاسرى بالتوافد على الوطن والاهل، خريف عام 1990، يصور لنا الصقر أفجع تصوير لهفة الزوجة الوفية وانتظارها الطويل لحافلات مكتظة بالاسرى العائدين، لكن الزوج الغائب الذي ذهب ولن يعود، والذي اكلته الحرب الضروس، لن يكحل عيني زوجته بمرآه مرة ثانية، ذلك لانه، فُقِدْ، لكن الزوجة الوفية الشريفة، التي تكبت رغباتها ونوازعها، لا بل تميتها كالراهبات المتبتلات المنقطعات لعالم الروح، تظل زوجته تحيا على امل عودته يوما، وتظل تذهب الى مكان وصول العائدين من الاسر دون جدوى، ورويداً رويداً يخبو الامل ويذوي تحت مطارق الحقيقة المفجعة، ان الزوج تحول الى ذكرى، وصورة، وما عاد جسداً يحيا، ولعل افجع ما ختم مهدي عيسى الصقر روايته هذه (إمرأة الغائب) بالاحتمالات الثلاثة للقاء الزوجة بزوجها الغائب، وكلها تدل على امكانات باهرة في القص، وكلها باهرة في استدرار فجائعنا بمأساوية نتائج الحروب وآثارها المدمرة على الحياة والمجتمعات.
هذه الرواية رفعت من بارومتر قناعتي بالامكانات الروائية للصقر، فضلاً على ابداعه في القص.
لكن ما عزز هذه القناعة واكدها، هذا العمل الروائي الباهر(بيت على نهر دجلة) الذي طلع علينا به مهدي عيسى الصقر، والذي نشرته دار المدى-كذلك- بطبعته الاولى عام 2006، والذي يستلهم كذلك اجواء الحرب، من خلال الاسير العائد، لكن العائد جسداً محطماً من غير عقل، فلقد افقده الاسر الطويل والقساوة المدمرة، التي كانوا يعاملون بها في الجانب الاخر، افقده عقله، وتركه هناك وراءه ظهرياً.
حياة ما بعد الاسر
هذا الاسير سعيد محمد المطلوب، يعود من الاسر الطويل، ليجد الدنيا قد تغيرت، أخوه الذي يكبره، افترسته الحرب ايضا، وبقيت غرفته موصدة، منذ ان ذهب ولم يعد، يعود ليجد الزوجة الشابة، فاتن، التي كانت رابطة الجأش محافظة على عفتها وذكرى الزوج، الذي شوهد في الارض الحرام، لكنها بمرور الايام واغراءات الضابط المسؤول عن مركز استلام جثث الشهداء، وتسليمها لذويها، والذي يضع مسدسه على ردفه دائما، هذا المُساعد الانيق الطويل الوسيم، يغري الشابة الجميلة الملهوفة على معرفة مصير الزوج الغائب، التي بدأ جسدها المحموم المكتنز بالتشهي يلح عليها، تقع فريسة هذا الرجل الذي لم يحترم وضعه، وإذ تكون اخت الاسير، ساهرة منهمكة بالتعرف على الجثث مجهولة الهوية، واضعة على وجهها القناع الطبي الابيض بسبب الروائح المنبعثة من العنابر والشاحنات المحملة بجثث الجنود، كان ذلك الانسان يرتكب الفاحشة مع الزوجة الجميلة، والتي يتزوجها فيما بعد، مما يؤكد خلوه من الخلق الرصين والشرف.
ومما يؤكد ذلك تلك المعابثة النزقة معها وهو يقود سيارته بأقصى سرعة على الطريق السريع، ووضع يده على موضع التقاء فخذيها البضاوين البيضاوين المكتنزين، من غير ان يعبأ بالصغيرين الذين كانا يراقبان ما يفعله.
فانتازيا الاحلام
رواية (بيت على نهر دجلة) للقاص والروائي العراقي الكبير مهدي عيسى الصقر، رواية نفسية كابوسية تستقريء بدقة وشفافية واقع المجتمع العراقي، الذي دمرته الحروب نفسيا واحالت العراقيين الى مرضى نفسيين فسعيد الاسير العائد الذي سلبه الاسر عقله وحطم نفسيته ما كان هو المريض النفسي الوحيد، بل كانت اخته ساهرة مريضة هي الاخرى واذ تذهب بسعيد الى طبيب الامراض النفسية لمحاولة علاجه، تفجعها نظرة الطبيب اليها ومعاملتها بوصفها مريضة نفسيا، وبحاجة الى علاج، شأنها شأن اخيها الذي غادره عقله، الامر الذي يدفعها مرات عدة للاحتجاج على هذا الرأي، قال لها الطبيب النفساني محمود سالم (انت لست كبيرة في السن فلماذا تجعلين من نفسك اما لرجل لم تلديه؟) يده القصيرة تتحرك امام وجهها متسائلة.. نظرت اليه في استنكار. (دكتور انا لم اجئك تعالجني فلماذا؟ ثم ماذا تعرف عني؟ ضرب سيجارته على حافة المنفضة ليسقط عنها رمادا لا وجود له، ثم رفع رأسه اليها، انا اعرف ما ارى وما اسمع واعرف ما تحاولين اخفاءه عن الآخرين)ص38.
ولأن الحكاية التي تسردها ساهرة على مسامع الطبيب محمود سالم تكاد تقترب من الخرافة والفانتازيا او احلام الكوابيس عن حياتها وحياة شقيقها الاسير، الذي جاءوا بدلا عنه جثة ما مجهولة الهوية، او وضع فيه اي شيء لانهم منعوها من فتح التابوت بغية التعرف على النائم فيه، بحجة العطف عليها وعدم تحميلها ما لا يحتمل، هذا الضابط المساعد الذي دبر الامر بليل بهيم كي يوقع بفاتن زوجة سعيد الجميلة ويضعها امام الامر الواقع فها هو زوجها جثة خامدة كي يتزوجها، بعد ان نال منها وطره في غرفته الرسمية واثناء الواجب ايغالا في الجريمة والخسة والنذالة يقول لها الطبيب: (كنت تقولين ان الاقدار او المصادفات الغريبة كانت تعد لك شيئا اخر، قالت له: كنت اقف بين المنتظرين فأقبلت القافلة المحملة بالوجوه التي شاخت هناك، وفجأة لمحت وجهه وراء احدى النوافذ المشرعة لم اصدق هذا ابني سعد الذي دفنته بيدي، بدا ذاويا ولكن الملامح كيف انسى الملامح كان هو نعم اعرف مثل هذه الحالات فبين مرضاي بعض من امثالك ولكن دكتور لماذا تصر على ان تعاملني كأنني انا المريضة؟ قال لها من اجل ان افهم حالة اخيك بشكل افضل فهو ربيبك، قال لها انه يفترض انها لم تر الجثة لم يسمحوا لي برؤيتها جاؤني بتابوت مغلق وقالوا لا تفتحيه لكي لا تتألمي اكثر). ص48
ويظل الطبيب الملتاث والذي اصبح كاهله ينوء تحت وطأة المشاكل التي يبوح بها الناس اليه، معاناة يومية قاتلة حولت حياتهم الى جحيم لا يطاق يظل هذا الطبيب ينظر الى ساهرة كونها مريضة هي الاخرى وأنها بحاجة الى مداواة وعلاج فضلا على اخيها الاسير الملتاث عقلا: (اخذ الطبيب انفاسا من سيجارته، ونفخ في الهواء ثم نظر اليها واقترح عليها ان تتمدد على الديوان وتكمل حكايتها قالت له انها ليست مريضة، قال انه يعرف، وان اخاها هو المريض، نهضت عن الكرسي وتمددت على الديوان، احست بالحرج وبنعومة الجلد وبرودته تحت راحتيها). ص84
واذا كان الطبيب يرى في ساهرة شقيقة الاسير العائد سعيد مريضة نفسيا فانها تحمل الرأي ذاته ازاء هذا الطبيب الذي تعده مريضا نفسيا هو الآخر تقول لزوجها: هذا الطبيب الذي ارسلتنا اليه رجل مخبول! هو بحاجة الى من يعالجه (….) مخبول كيف؟ (…) تصور كان طول الوقت يتظاهر بالتدخين بدون ان يوقد سيجارته..) ص33
(مرة اخرى وجدتني اجلس امام ذلك الطبيب المعتوه الذي استراح في كرسيه الدوار مرتديا بدلته الكحلية نفسها وربطة عنق زرقاء، وبين اصابعه القصيرة تنتصب سيجارته التي لا تنتهي..) ص63
(سلوك الطبيب بدا غريبا رأته يبتسم وهي تروي له بايجاز ما جرى في ذلك اليوم المشؤوم نهضت منزعجة وهمت بالخروج فأخرج سيجارته الباردة من فمه ونظر اليها مندهشا، لماذا نهضت؟ قالت له: اراك تهزأ بي كأنك لا تصدق ما اقول فأنا اتكلم عن محنة عشناها وانت تبتسم! قال لها: ان لا تبني احكاما على ما يلوح على وجوه الناس فانا لم ابتسم اجلسي واكملي حكايتك..) ص76
(رأت الطبيب يبتسم مرة اخرى حين امعنت النظر الى وجهه ادركت انه لم يكن يبتسم انما كانت تنتابه، وهو يستمع الى حكايتها، حالة من التشنج العصبي تجعل شفتيه تتقلصان بشكل يجعله يبدو كأنه يبتسم ساخرا من كلامها…) ص78
زواج مع وقف التنفيذ!
ويصح حدس ساهرة اذ ان هذا الطبيب النفسي مرهف الحس، والذي يقض مضجعه رؤية هؤلاء المرضى، وسماع حكاياتهم المأساوية المدوخة التي يحرص على تسجيلها صوتيا كي يستطيع اعطاء العلاج الناجع يصل فيها الى المرحلة التي ما عاد بمكنته التعايش مع هذه الاجواء الكابوسية القاتمة التي خلفتها حروب لا تنتهي اكلت الاخضر واليابس كأنها الجراد النجدي فيذهب الى عيادته في فورة غضب ويأس وقنوط ليحطم كل محتوياتها، اثناء زيارة المريض النفسي الاخر المحامي القادم من الجنوب والذي فقد اسرته كلها اثناء القصف المدفعي الذي كانت تعرض له مدينة البصرة ايام تلك الحرب الضروس والذي تعرفت عليه ساهرة مصادفة في ليلة من الليالي التي كانت تمضيها منتظرة قدوم الحافلات المحملة بالاسرى العائدين والذي سيصبح زوجا لها على شرط موجع ولا يقبل به عاقل مالك لزمام نفسه، ان لا يمس جسدها حتى شفاء اخيها الممسوس سعيد!! سعيد هذا الذي يظل يكرهه لانه يرى فيه شخصا طارئا على حياة الاسرة وخشية على اخته التي يعدها اما له لانها ربته واعتنت به بعد رحيل امهما المبكر، يظل يتلصص عليهما ليلا يسترق السمع الى كل همس وكل نأمة حتى اذا ايقن انهما اخلدا الى النوم، دون ان يمس هذا الرجل الغريب المحامي ماجد، جسد امه اذ ذاك يذهب الى فراشه لينام بعد حديث طويل مع اشباح الليل وذكريات ايام الاسر الطويل والوقوف طويلا في النسق لقضاء الحاجة وهو ما دفعه الى اقل ما يمكن من الطعام والشراب كي لا يحتاج الى ذلك الوقوف الطويل المذل والمهين لقضاء الحاجة الطبيعية.
زوجها ماجد يعاني كوابيس مدمرة تجعله يتصبب عرقا حتى في ذروة الشتاء مرة عانت كابوسا مزعجا واذ عادت الى صحوها لشد ما افزعها منظر زوجها ماجد الذي كان يتصبب عرقا (حين فتحت عيني رأيت ان الذي كان يختض هو جسد زوجي (….) اسنانه تصطك وعيناه تنظران الى وجهي باستغاثة اثار قلقها مشهد عينيه المفزوعتين ووجهه الشاحب (…) قالت له مضطربة ماجد ماذا بك!؟ انت تختض! تمتم غطيني (…) هرعت الى الخزانة واخرجت دثارا غطت به جسده ثم جاءت بمنشفة صغيرة وراحت تجفف العرق عن وجهه ورقبته سألته بماذا تحس؟ ما الذي؟ (…) فرد بخجل كأنه يعتذر لا شكرا لقد انتهت، سألته حائرة ما هي هذه التي انتهت؟ نظر اليها مرتبكا ثم قال: الرجفة انتهت… هل اراد ان يقول شيئا آخر؟، اتراه يعاني مرضا يخفيه عني لكي لا يشغلني بهمومه؟؟…) ص61
هذا الزوج المريض نفسيا والمحطم روحيا بسبب فقده لاسرته كلها يذهب لمراجعة طبيب النفس الذي يجده هو الآخر في حالة من حالاته العصابية اليائسة شاكيا من ان الناس يأتون اليه من كل فج عميق ملقين بثقل عذابتهم على صدري يظنوني المسيح عيسى بن مريم استطيع حل كل مشكلاتهم وهكذا تدمرت روحي… المرضى جعلو نهاري شقاء متصلا وليلي كوابيس مرعبة، انا تعبت وقلبي خلص، حكاياهم اسقمتني وفي النهاية ضيعتني هو يحسد زوجته الطبيبة فهي بعد ان تنتهي من فحص مرضاها تغسل يديها بالماء والصابون ثم تعود الى بيتها ناسية كل شيء، اما هو فبماذا يغسل روحه؟ قل لي بأي صابون يغسل روحه؟!!
وكما اشعل الطبيب النفسي المأزوم النار في محتويات عيادته ليضع حدا لعذاباته وهو يستمع طويلا الى عذابات مرضاه، فأن سعيدا المريض المأزوم يضع حدا لعذاباته حين يشعل النار في غرفته بعد ان تأكد متلصصا من اقتراب اخته جسديا من زوجها كان فراشه خاليا وباب الدار مشرعا، واضواء الحرائق تنير سماء المدينة…