ليس بالحقوق وحدها تستقر الديمقراطيات

عمر حمزاوي

ملخّص: تثبت الخبرة التاريخية والمعاصرة لأنماط الحكم غير الديمقراطية عجزها الجماعي عن تحقيق التقدم والتنمية المستدامة والسلم الأهلي والاستقلال الوطني على نحو مستقر، وتزجّ بدولها ومجتمعاتها إلى أتون أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية لا تنتهي.
يمكّن التنظيم الديمقراطي للدولة وللمجتمع، حين يستقر، المواطنين من إدارة حياتهم الخاصة والإسهام في الشأن العام في ظل ضمانات للحريات ولحقوق الإنسان ولكرامته، ولتكافؤ الفرص، وبحث مشروع عن المبادرة الفردية. بالقطع، تتفاوت حظوظ المواطنين، وتؤثر الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية في درجات شعورهم بالحريات، وحقوق الإنسان، والمبادرة الفردية، وممارستهم لها في الحياة الخاصة والعامة. إلا أن تمكين قطاعات تتسع باطراد من المواطنين يمثل قاعدة أساس للديمقراطية، ويقترن بها دوما التحرر من الخوف النابع إن من قمع الحكام للمحكومين أو من تراكم المظالم المجتمعية.
توفر الحريات والحقوق وصون الكرامة الإنسانية والمبادرة الفردية مثلما يوفر التحرر من الخوف بيئة مساعدة على التميز الشخصي والإبداع، وتدفع بالدولة والمجتمع المعنيين إلى التنمية المستدامة والتقدم. أما حين تغيب الديمقراطية أو تتعثر مسارات التحول باتجاهها، فإن ضمانات الحريات وحقوق الإنسان وكرامته والمبادرة الفردية وتكافؤ الفرص تتراجع ويمسك الخوف بتلابيب الناس ويغتال التميز الشخصي ويقتل الإبداع. حين تغيب الديمقراطية، تهيمن جموع محدودي الكفاءة ومروجي خطاب الكراهية والإغلاق والإقصاء على الفضاء العام وتبتعد طاقة نور الحرية التي يحتاجها المواطن لكيلا تنزع عنه إنسانيته وتحتاجها الدولة والمجتمع لكي توفر بيئة صحية للناس.
على الرغم من ذلك، يجافي الصواب التاريخي الاعتقاد بأن القبول الشعبي للتنظيم الديمقراطي للدولة وللمجتمع يستند فقط إلى ضمانات الحقوق والحريات الشخصية والعامة التي يقرها دستوريا وقانونيا ويفعلها سياسيا واجتماعيا واقتصاديا.
فبجانب ضمانات الحقوق والحريات هذه، تدلل الخبرات التاريخية والمعاصرة للديمقراطيات على أن قبولها الشعبي يرتبط بأفضليتها مقارنة بالأنماط الأخرى للحكم لجهة تحقيق التقدم والتنمية المستدامة والسلم الأهلي.
وعد الديمقراطية، كما يسمى في أدبيات السياسة، هو اقتران الحقوق والحريات بتحسن الأحوال المعيشية للمواطنات وللمواطنين وارتفاع مستوى الخدمات التعليمية والصحية والاجتماعية والثقافية التي يحصلون عليها وتمكينهم من المشاركة في النشاط الاقتصادي على أساس من تكافؤ الفرص والمنافسة، ومن المشاركة في الحياة الاجتماعية وممارسة الشعائر الدينية في إطار من المساواة والأمن والحياد. وعد الديمقراطية هو، أيضا، اقتران الحقوق والحريات بتنامي التزام الدولة ومؤسساتها والكيانات الجماعية غير الحكومية بسيادة القانون والسلمية ومحاربة الفساد ومنع استغلال المنصب العام.
أما حين تخفق الديمقراطيات في تحقيق التقدم والتنمية المستدامة والسلم الأهلي، فإن حضور ضمانات الحقوق والحريات الشخصية والعامة لا يحول بين قطاعات المواطنين وبين الاندفاع الجماعي نحو تأييد أنماط أخرى للحكم، تبني قبولها الشعبي على وعد مضاد باستعادة التقدم والتنمية، كما فعلت الفاشيات الأوروبية والأميركية اللاتينية في أواسط القرن الماضي، أو بإنقاذ السلم الأهلي وبناء الدولة القوية، وتحقيق الاستقلال الوطني ومحاربة الفساد، كما فعلت النخب العسكرية في مصر وغيرها من الدول العربية والإفريقية في النصف الثاني من القرن العشرين، أو بخليط من كل هذا كما فعل فلاديمير بوتين ونخبة حكمه في روسيا الاتحادية خلال العقد الماضي، وبعد سنوات بوريس يلتسين الكارثية في التسعينيات.
وفي حالات أخرى كالصين التي لم يتطور بها أبدا التنظيم الديمقراطي، استجابت أغلبية مستقرة من المواطنين لمساومة جماعية جوهرها ضمان الدولة للتقدم الاقتصادي والاجتماعي وللتنمية المستدامة، وتخلي المجتمع عن المطالبة بالحقوق والحريات الشخصية والسياسية.
غير أن الإشكالية الكبرى هنا هي أن الخبرة التاريخية والمعاصرة لأنماط الحكم غير الديمقراطية تثبت عجزها الجماعي عن تحقيق التقدم والتنمية المستدامة والسلم الأهلي والاستقلال الوطني على نحو مستقر، وتثبت زجها بدولها ومجتمعاتها إلى أتون أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية لا تنتهي. ويستفيق الناس، وبعد اندفاعهم لتأييد التخلي عن الديمقراطية أو استبعادها من قاموس المرغوب به جماعيا أو بعد تورطهم في تأييد موجات الفاشية والشعبوية، يستفيق الناس على خسارتهم لكل شيء. تضيع آمال التقدم والتنمية، مثلما تتوارى ضمانات الحقوق والحريات. هكذا انتهت الفاشيات الأوروبية واللاتينية، هكذا انتهت نخب حكم العسكرية في بعض الدول العربية والإفريقية، ولم يبتعد عن خبرة إخفاق أنماط الحكم غير الديمقراطية، إلا الصين ذات الخصوصية الجلية المرتبطة بالتاريخ والجغرافيا والمساحة والكثافة السكانية والموارد الطبيعية الهائلة.
يعني هذا، وأسجله اليوم فيما خص الحالة المصرية وباتجاه قطاعات المواطنين الواسعة التي فقدت الثقة في الآليات والإجراءات الديمقراطية، أن الأمل في ضمانات لحقوقنا وحرياتنا كما في التقدم والتنمية المستدامة والسلم الأهلي والدولة القوية العادلة ومحاربة الفساد يظل معقودا على استعادة القبول الشعبي لمسار بناء الديمقراطية والتمكين لآلياتها وإجراءاتها من إحداث مفاعيلها في الواقع دون انقطاعات. ويعني هذا، أيضا، ضرورة وجود نخب سياسية واقتصادية ومجتمعية قادرة على إدارة التحول الديمقراطي دون تجاهل لمركزية الوعد بالتقدم والتنمية والسلم الأهلي وجاهزة للربط بين الدفاع الصريح والسلمي عن الديمقراطية حين تتوالى الأزمات وبين تطوير استراتيجياتها وأدواتها للاستجابة لمطالب الناس الحياتية دون استعلاء.

عمرو حمزاوي
تشمل أبحاثه الديناميكيات المتغيّرة للمشاركة السياسية في العالم العربي، ودور الحركات الإسلامية في السياسة العربية.
مركز كارنيغي للشرق الاوسط

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة