دراسة في الدين العام العراقي
الصباح الجديد – خاص:
بقلم الخبير الاقتصادي لهب عطا عبدالوهاب
توطئة :
إن حاجة العراق الماسة للموارد المالية لإعادة الإعمار بعد 35 عاماً من الصراعات والنزاعات الداخلية لا يمكن مقابلتها من خلال مواردها الهيدروكربونية الهائلة ، ولا مناص والحالة هذه من اللجوء إلى الدين لمواجهة متطلبات إعادة الإعمار الهائلة .
بيد أن المناقشات داخل العراق بخصوص الدين العام للبلاد تكتسي طابع عاطفي وجداني لأسباب عديدة منها النظرة العامة للدين باعتباره عامل ضعف أو عبء على البلاد ، وهناك نظرة عاطفية متجذرة في الوطنية العراقية والصراع ضد القوى الأجنبية التي ترى في الدين أداة لرهن البلاد وإعادة استعماره من جديد.
إن جذور هذا المنحى تعود إلى منتصف عام 1870 حين فقدت مصر إدارتها على قناة السويس بعد أن باعت 44% من حصتها في شركة قناة السويس للملاحة البحرية الدولية إلى بريطانيا للتمكن من دفع الديون الهائلة التي تراكمت نظراً لجهودها في تحديث البلاد. كما أن أزمة السويس بعد تأميم القناة عام 1956 من قبل نظام جمال عبد الناصر ذات التوجهات القومية العربية وما تبعها من العدوان الثلاثي ساهم في تعزيز المنظور الوطني في الوجدان العراقي.
كان العراق خال من الديون بشكل كبير حتى اندلاع الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) باستثناء بعض الديون السوفييتية وديون الكتلة الأوروبية الشرقية والتي كانت تسدد بمقايضتها بالنفط.
إلا أن الحرب العراقية الإيرانية غيرت كل هذا ، إذ راكم العراق ديون هائلة لتمويل حربه الضروس التي دامت ثماني سنوات. وزاد الطين بلة غزوه للكويت وما أعقبها من سنوات عجاف جراء العقوبات الاقتصادية.
إن هذه الديون لم تكن معروفة لدى جمهرة العراقيين إبان سنوات نظام صدام حسين الشمولي التي كان ينظر إليها باعتبارها أسرار عليا للدولة لا يمكن البوح بها. إلا أنها أصبحت الشغل الشاغل للعراقيين بعد عام 2003 بعد أن أميط اللثام عنها إثر إعادة جدولة الديون.
وجاء توقيع اتفاقية إعادة الشراء (SBA) مع صندوق النقد الدولي في حزيران عام 2016 ليعيد النقاش الوطني حول الديون والتي تكثفت بعد انتهاء الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) والحاجة الماسة للموارد المالية لإعادة البناء.
وسنحاول في هذا التقرير تقديم عرض للدين العراقي ، أصوله وتطوره والتحديات التي تواجهه.
أولاً : التطور التاريخي للدين العراقي
أفضت الحرب العراقية الإيرانية 1980-1988 إلى تحول العراق من صافي دائن باحتياطيات أجنبية تصل إلى 35 مليار دولار إلى دولة مدينة وصلت ديونها في نهاية عام 1988 إلى 80 مليار دولار. وكانت الدولة العراقية تعتقد أن الحرب ستكون نزهة صغيرة وعليه تبنى العراق سياسة قائمة على الاستمرار في شن الحرب مع الإبقاء على الإنفاق العام والمضي قدماً في مشاريع التنمية الاقتصادية. وقد تم تمويل الإنفاق العسكري المتعاضم بالسحب من احتياطياتها الأجنبية مع إعانات من قبل الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي GCC وقد وصلت هذه الإعانات إلى 5 مليار دولار. بيد أن الانخفاض في صادرات العراق النفطية بمقدار 60% بحلول عام 1981 نظراً لما أصاب مرافئها التصديرية من دمار واستمرار الانخفاض في الصادرات عام 1982 بعد غلق الخط الواصل إلى ميناء بانياس السوري على ساحل البحر الأبيض المتوسط أفضى إلى مزيد من التآكل في الاحتياطيات الأجنبية.
وجاء غزو الكويت عام 1990 وما تبعها من نظام العقوبات الاقتصادية لتفاقم الأمور وبحلول عام 2003 وصلت الديون إلى حوالي 120 مليار دولار تتكون من 3 شرائح:
الشريحة الأولى بحدود 40 مليار دولار لمجموعة نادي باريس للدائنين تم جدولتها على 3 مراحل بمقدار 90% ليصل إلى 6 مليار دولار في نهاية عام 2017.
أما الشريحة الثانية البالغة 65 مليار دولار فهي ديون مستحقة لمجموعة الدول الدائنة خارج نادي باريس. وقد ضمت هذه الشريحة 49 مليار دولار ديون لدول مجلس التعاون الخليجي. أما الشريحة الأخرى فهي ديون وفوائد تصل إلى 16 مليار دولار مستحقة للصين وتركيا ودول أوروبا الشرقية. بيد أن مبلغ الدين الإجمالي البالغ 65 مليار دولار قد انخفض حالياً إلى 41 مليار دولار بعد أن شطبت العديد من الدول هذه الديون، منها : 8.5 مليار دولار من قبل الصين عام 2007 ، و 7 مليار دولار من قبل دولة الإمارات عام 2008.
أما الشريحة الثالثة والأخيرة البالغة 15 مليار دولار فهي ديون مستحقة لبنوك تجارية أو ما يعرف بنادي لندن. وقد تم إعادة جدولتها بعد أن قامت الحكومة العراقية بإصدار سندات اليورو البالغ قيمتها 2.7 مليار دولار عام 2006 تستحق عام 2028 وبفائدة قدرها 5.8%.
تعويضات الحرب :
استحدثت الأمم المتحدة عام 1991 لجنة التعويضات للنظر في المطالب نتيجة الخسائر جراء الغزو العراقي للكويت. وتم تقديم 2.7 مليون طلب بقيمة 350 مليار دولار كتعويضات. بيد أن قسم من هذه المطالب رفضت باعتبارها مطالب غير مشروعة. ومن مجموع الطلبات الكلية قبلت اللجنة منها 1.5 مليون طلب تعويض وصلت قيمتها إلى 52 مليار دولار. وقد بدأ العراق بدفع هذه التعويضات عند سريان ما يعرف ببرنامج النفط مقابل الغذاء. وبحلول عام 2003 كانت لجنة التعويضات قد أطلقت ما يعادل 24 مليار دولار. واستمرت اللجنة بدفع تعويضات وصلت قيمتها بحلول عام 2017 إلى 48 مليار دولار. أما الشريحة الأخيرة البالغة 4.6 مليار دولار فتستحق عام 2019.
بالرغم من عدم تضمين التعويضات في حساب ديون العراق إلا أنها أثرت بشكل كبير على درجة التصنيف الائتماني للبلاد إذ ينظر إليها باعتبارها تمثل مطلوبات liabilities كبيرة.
ثانياً : النمو في الديون بعد عام 2014
شهد عام 2014 تضافر عاملين تجلى الأول في احتلال ثلث مساحة البلاد من قبل تنظيم داعش الإرهابي من ناحية، وانهيار أسعار النفط من ناحية أخرى، كان لها تأثير بالغ على اقتصاد البلاد قابلها الارتفاع المضطرد في الإنفاق الحكومي والتراجع الحاد في الإيرادات. ولمقابلة متطلبات المواجهة العسكرية مع داعش أجبرت الحكومة على القيام بتخفيضات كبيرة في برنامجها الاستثماري واللجوء إلى الاقتراض لتمويل الإنفاق الجاري المتضخم (الأجور والرواتب ، الإعانات ، برنامج الرفاهية الإجتماعية).
ويلقي الجدول رقم (1) أدناه تطور الدين العام للفترة (2014-2017)
كما هو موضح في الجدول رقم (1) فإن الدين العام العراقي بلغ 122.9 مليار دولار منها 73.7 مليار دولار دين خارجي و 49.2 مليار دولار دين داخلي . وتشير الإسقاطات Projections إلى أن الدين العام مرشح للارتفاع ليصل إلى 133.4 مليار دولار في نهاية عام 2022 منها 71.4 مليار دولار دين خارجي و 62 مليار دولار دين داخلي.
1. الدين الخارجي :
يتألف الدين الخارجي البالغ 73 مليار دولار في نهاية عام 2017 من أربع شرائح رئيسية هي :
(أ) 41 مليار دولار ديون إلى مجموعة الدول غير الأعضاء في نادي باريس للدائنين وأغلبها ديون لدول مجلس التعاون الخليجي التي تراكمت قبل عام 2003 خلال الحرب العراقية الإيرانية. وهي ديون قائمة بيد أنها ديون مجمدة منذ عام 2003 دون أن تراكم أية فوائد ولا يطالب العراق ولا الدول الدائنة بتسديدها. وحسب صندوق النقد الدولي سيتم إعفاء 90% منها إسوة بديون نادي باريس.
(ب) 6 مليار دولار من ديون نادي باريس التي تم إعادة جدولتها. وكانت هذه الديون تقدر ب40 مليار دولار عام 2003 قبل أن يتم إطفاء 90% من قيمتها وهي تحمل فائدة قدرها 3% تسدد خلال فترة زمنية قدرها 28 عاماً.
(ج) 4.7 مليار دولار سندات اليورو.
(د) الديون التي تحققت بعد عام 2014 والبالغة 22 مليار دولار وتشمل ديون صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والديون الثنائية.
2. الدين الداخلي (المحلي) :
يتكون الدين الداخلي البالغ 49.2 مليار دولار في نهاية عام 2017 بالدرجة الأساس من سندات الخزينة TB بحوزة كل من مصرف الرافدين ومصرف الرشيد والبنك التجاري العراقي والتي يتم إعادة خصمها لدى البنك المركزي العراقي.
جدول رقم (1)
التاتج المحلي الإجمالي والدين العام : 2014-2022
ملاحظة : الأرقام مستقاة من تقرير صندوق النقد الدولي (Iraq, Country Report) ، 2017.
ثالثاً :تطور الدين العام حتى عام 2022
إن النمو المتوقع في الديون من 122.9 مليار دولار عام 2017 إلى 133.4 مليار دولار عام 2022 مبنية على توقعات بقاء العجز في الموازنة لغاية عام 2020 على أن يتحول العجز إلى فائض صغير في عامي 2021 و 2022 على التوالي. وهذا العجز قائم بدوره على فرضية أن أسعار النفط العراقي ستصل إلى 45.3 دولاراً للبرميل عام 2017 ترتفع إلى 47.1 دولاراً للبرميل عام 2022 لقاء صادرات نفطية ترتفع من 3.8 مليون برميل يومياً إلى 4.1 مليون برميل يومياً.
بيد أن دينامية أسعار النفط توحي بأن الأسعار المذكورة متحفظة جداً في ظل النمو في الاقتصاد العالمي، كما أن دخول العقوبات الاقتصادية ضد إيران بدءاً من 5 تشرين ثاني / نوفمبر الجاري قد تزيح من الأسواق أكثر من مليون برميل يومياً. وبناءاً عليه فإن توظيف أسعار النفط أقل تحفظاً.
كما هو موضح في الجدول رقم (2) أدناه سترسم صورة مغايرة جداً للإيرادات والعجز ومستوى الديون المستقبلية.
إن الفرضيات الأحدث ستغير بشكل جذري العجز في الموازنة العامة للفترة 2017-2022 حيث ستشهد الحكومة فائضاً في موازنتها العامة للفترة المذكورة. إن أهمية ذلك تكمن في أن العجز التراكمي المتوقع البالغ 17.6 مليار دولار سيتحول إلى فائض قدره 47.4 مليار دولار.
• بلغ متوسط سعر النفط العراقي لعام 2017 ما يقارب 49.2 دولاراً للبرميل، وبلغ متوسط السعر للفترة كانون الثاني / حزيران 2018 ، 63.5 دولاراً للبرميل ، والذي تم توظيفه كمتوسط سعر لعام 2018 بأكمله.
• أما التقديرات للفترة 2019-2022 تفترض حصول انخفاض تدريجي للأسعار في ظل تخمة المعروض العالمي. في حين استندت العائدات النفطية على الفرضيات المذكورة.
• ملاحظة : الأقواس تعني علامة السالب (-)
الفرضيات في الجدول :
• إن الأرقام المستخدمة لعام 2017 مستقاة من وزارة المالية.
الخلاصة والاستنتاجات :
مع انتهاء برنامج التعويضات عام 2019 وانتهاء الصراع مع داعش، سيمكن العراق من توظيف الفرص المتاحة التي يمثلها الارتفاع الحالي في أسعار النفط. الأمر الذي سيزيد من عائدات البلاد بما يفضي إلى تجسير الفجوة بين العائدات والنفقات في موازنته العامة. ويقع على عاتق الحكومة الجديدة برئاسة الدكتور عادل عبد المهدي مسؤولية وضع حد للفساد المالي الذي استشرى كالنار في الهشيم في الحكومات السابقة المتعاقبة، والمضي قدماً كذلك في إعادة تنويع القاعدة الاقتصادية الذي لا يزال اقتصاد ريعي يتأثر بشكل كبير بالتذبذبات بأسعار النفط العالمية.
للمزيد من التفاصيل انظر :
Ahmad Tabeqchali, Understanding Iraq’s debt: An overview of it’s status, outlook and origins.
Al-Bayan Centre for Planning and Studies, 2018.