يوسف عبود جويعد
قد يكون الحظ أوفر للنجار الماهر , الذي خبر مهنته , وتعلم خلال ممارستها الكثير من التجارب العملية , التي مكنته من إتقانها, والخروج من سطوة الادوات المستخدمة, المطرقة , المنشار, المسمار, الخشب الى غير ذلك من الادوات التي تدخل ضمن عمله , لأنه سوف يستخدمها بمهارة عالية , ولا يجد صعوبة في إستحضارها في الوقت الملائم , والضرورة لحاجتها,وعندما يصل الى مستوى الحرفية في مهنته , فسوف يخرج من سطوة تلك الادوات , لينشغل بأمور إبداعية وفنية اخرى , وتلك هي اللمسات الفنية التي يضفيها الى المادة التي يعمل بها, من أجل أن تكون مميزة.
و هذه الحالة تنسجم مع العملية الابداعية في فن صناعة الرواية ,إذ اننا سوف نكتشف , ومن خلال تحليلنا لرواية (القطار.. إلى منزل هانا) للروائي سعد محمد رحيم , بأنه لم يعد يتأثر بسطوة الادوات السردية التي تدخل ضمن مسار العملية التدوينية , وضمن السياق الفني للنص , بل أنه إستطاع أن يتنصل منها بخبرته وممارسته الطويلة في هذا الجنس المهم, وإنطلق لما هو أهم , وهي تلك اللمسات الفنية المهمة , التي تعد من العوامل المهمة في إنضاج النص, وتكوينه وتشكيله وبنيته ومساره, كونه يشير ومن خلال بطل هذا النص , في الفصل الاول (رمزي: مستشفى بلندن) وعلى لسان البطل بأنه التقى بهانا مرتين في حلمين, وهو يفكر في هذه الساحرة الحالمة الرقيقة , بعد مرور اربعين سنة ,فيجد في ذلك فرصة طيبة لأشراك المتلقي في رحلة حب نسجت من وحي الخيال, من أجل أن نجد متنفساً جديداً يخرجنا من هول الواقع الذي نعيشه, وسط فوضى الحياة المرتبكة الغريبة التي نعيشها, وهوواثق بأنه على مقدرة تامة بزج المتلقي في حياة ساحرة , حالمة, خيالية, ممتلئة بالعاطفة والحب , وبلغة سحرية منتقاة وتنسجم ومتطلبات السياق الفني الذي اتخذه مسار لعملية السرد, ويصل في ذلك التوهج السردي الرقيق الشفاف الى الحد الذي لم يعد هنالك أي ملامح لتلك الحياة المرتبكة ,بل ننساها تماماً وننشغل في متابعة أحداث هذا النص , وهذه المهمة وحدها تتطلب جهد فني كبير, فإنبرى الروائي سعد محمد رحيم ليخوض هذه التجربة, دون أن يعيقه عائق, أو يعكر صفو هذا الاسترسال الفني الرائق أي شيء, حيث الانسيابية المنسجمة تماماً ولغة السرد, والايقاع المتواصل المتزن الذي يساهم في الهيمنة التامة على حواس ووجدان وفكر المتلقي, كما أنه (أي الروائي) عمد الى إستخراج ادوات السرد من متن النص, لتكون عناوين لفصوله , حيث نجد الزمان وحده في فصل, وتارة اخرى نجد الزمان والشخصية عنوان لفصل آخر, واخرى نجد فيها الزمان والمكان والشخصية عناوين لفصل, وهذه العملية الفنية ساهمت بشكل ملفت في توضيح معالم النص , وتسهيل مهمة المتلقي لمعرفة تلك الادوات وأساليب إستخدامها , ضمن متن النص, وقد إستطاع أن يناور بها بشكل دقيق ,فعندما يكون الفصل يضم الشخصية والزمان فهذا يعني بأن من يقود عملية سرد الاحداث هو ذاته الذي ظهر في عنوان الفصل, وعندما يكون الزمان وحده فيعني أن السارد العليم هو الذي يقوم بإدارة دفة الاحداث,ولأن الازمنة متباعدة وحدثت بين 1966 و 1967 و 2005 , وتداخلت في بعض الفصول فإن هذا الاسلوب في التناول السردي أتاح للمتلقي معرفة الاحداث دون الحاجة الى جهد فكري كبير, وبما أن الروائي قد إنطلق في مهمته في جعل هذا النص مغاير , فعليه أن يقوم أولاً بتهيئة الاجواء التي من شأنها إتمام عملية الانتقال الى عوالمه , وكانت الالتفاتة في إدخال المتلقي في عملية إستحمام ذهني من خلال المستهل الذي جعله العتبة النصية الموازية :
هانا, ألفظها كأنني أرتشف الفجر .
أحسها قطعة حلوى تتلاشى في الريق.
هانا, مفتتح ترنيمة قداس, واول شهقة فرح.
والنفس اللاهث لعصفور يمارس الحب.
ها, فيرتعش الهواء بالتذاذ في فراغ الفم.
نا, فيتساقط في روحي الندى إذ يلمس اللسان
بخفة عذبة سقف الحلق.
هانا, ذكرى ارتحالات قديمة, وحكايات
مرممة بالخيال ,أستدعيها الآن بقوة الكلمة,
كي يكتمل النص المجنون, لعله يكتمل..
ثم ننطلق في فضاء النص السردي , لنجد رمزي يصل منزل هانا , ويقف أمامها ويتطلع ملامحها , بعد مضي اربعين عاماً, يحاول أن يذكرها بعد عبور هذا الكم الهائل من السنين , فهو يعشقها روحاً وجسداً, ليختلط الشرق بالغرب بكل وجوده, ونجد رمزي تواق الى أن ينضم الى حنانها , وكم الانوثة التي تتمتع بها,فنعيش تلك العلاقة العاطفية المركبة بين الجسد والروح:
( ألفاها كينونة لا معقولة في هذا الصقع الوحشي الغريب..مع وصولها قبل أيام أغوته لا أباليتها وشوّشته, وكان يدرك أنها من غير عالمه, خارج مداره وإلى الأبد, ليس من المحتمل أن ينتميا إلى الشيء نفسه .. لكنها استحوذت على تفكيره تماماً, وفي خضم هوسه اليائس هذا رأى كيف أن برودتها العذبة تزيد من حرارة الأجزاء السرّية الحميمة في بدنه, حتى أنه استحضرها في الجو المعتم الخانق للحمام مرتين باحتفال لذائذي لم يخبر كمذاقها من قبل ) ص44
ونعيش وسط أجواء تلك العلاقة الحميمية الغريبة المفتوحة , بلغة شفافة ساحرة, لكي نبقى في فضاء هذا الخيال الجامح , ينبري الروائي ومن خلال بطل النص ليذكرنا بوجوده بشكل لايخل بالعملية السردية وينضم لها دون أي ارباك:
(احاول ألا افكّر بها كما كان خليقاً بأغاثا كريستي أن تفعل, أو دان براون,أو حتى أمبرتو إيكو. وما يقلقني بشأنها هذا الاضطراب الذي تحدثهُ وتهدّد به إيقاع النص وتماسكه المرّة تلو المرّة . وقطعاً لست أريدها حجر سنمار فيه, ذاك الذي سحبناه انهارالبناء طولاً وعرضاً.) ص 190
وبعد توطد العلاقة , وإنشغال رمزي بالفوز بها روحاً وجسداً, يعود ثانية الروائي في لمحة سريعة عن بنية العنونة , وعن إنشغاله في تصنيف هذا النص :
( لا بأس أن أقع على عنوان يمكن تغييره في ما بعد, ( بالقطار العائد الى منزل هانا.. القطار الخارج الى ليل هانا.. القطار الأخير إلى ضاحية هانا) .. هي نزوة أن أجعل كلمتي (قطار هانا) في العنوان ..لا, عليّ إرجاء هذه المسألة الآن؟.. المهم من أين عليّ البدء ؟. من أي مشهد , من أي نقطة في مسارالزمن؟.. وهل ما سأكتبه يدخل في خانة السيرة الذاتية أم الرواية , أم الرواية السيرة كما يحلو لبعض النقاد أن يسموا صنفاً من الروايات تمزج بين الوقائع الحاصلة والتخييل؟.) ص209
وماهذا القطار الى منزل هانا , الا عملية إفلات وهروب من واقع صعب , الى حيث الخيال , والحلم , والحب , رحلة مفتوحة خالية من أي ما هو من شأنه أن يشوب هذا النسق الفني .
وتستمر تلك العلاقة وتتوطد, وتصاب هانا بمرض , ويرافقها رمزي لإجراءالفحوصات الطبية , فتكتشف مبكراً بأنها مصابة بمرض السرطان في المبيض , وهنا تظهر ملامح الرجل الشرقي الذي لا يترك المريض , بل يكون معه وهكذا فأن رمزي لم يفارقها ,وتزداد المودة بعد أن يفيض قلبها بهذا الحب , وتشعر بكمية الحنان والالتصاق الذي ابداها رمزي لها وهو يقف معها في اصعب حالات مرضها .
( هذا يوم غريب رمزي .. ياله من يوم غريب لعين.. سرطان المبيض وذلك الشيء الطويل وهذا القدر الغليظ من الضحك , لاشك أنني ولدت تحت نجمة حظ تهتز) ص 280
في رواية ( القطار ..إلى منزل هانا) لسعد محمد رحيم , نكون مع تناوب جميل ,بين اللمسات الفنية الساحرة لمسار العملية السردية بأحداثها الشفافة, ومع السياق الفني , لفن صناعة الرواية , بكشف جانب مهم من عملية الكتابة الصحيحة لهذا الجنس , من خلال إظهار الروائي لادوات السرد وتوظيفها ضمن المبنى السردي .
من إصدارات الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق لعام 2018