القاضي سالم روضان الموسوي
طالما اعتقدنا بان الحكم القضائي هو عنوان الحقيقة، ومعنى ذلك ان ما ينطق به الحكم القضائي هو الذي يعتد به ولا يعتد بسواه حتى وان كان الطرف الذي خسر الدعوى او المتهم الذي ادين يعرف بالعلم اليقين انه لم يفعل ما نسب اليه في الحكم القضائي، كما أصبح الاجتهاد القضائي الذي صب في قالب الحكم القضائي يشكل سابقة يعتمدها الآخرون عند التصدي للوقائع التي تتشابه مع ما فصل فيه ذلك الحكم ، وأصبح الكثير ممن يعملون في المجال القضائي يعتقدون بان ما اختزنته ذاكرتهم من أحكام قضائية عضدها تصديق محكمة التمييز لها ، بانها خزين يثري معرفتهم ويجعلهم ذو معرفة بمجال تخصصهم، إلا ان المشتغلين في نظرية المعرفة (الابستومولوجيا) يعتقدون بأن من تنسب إليه المعرفة لابد وان يكون حائزا على موهبة إدراك الأشياء على نحو صحيح، وعلى وفق ما ذكره دنكان بريتشارد في كتابه الموسوم ((ما المعرفة)) ص 19 اصدار سلسلة عالم المعرفة الكويتية، ومن ذلك القول أرى بأن مجرد اختزان الذاكرة للأحكام القضائية لا يمكن ان يعد اثراء معرفيا، لان المعرفة كما اشير سلفا هي الواقع الصحيح وليس الافتراضي او الاعتقاد، لان الاعتقاد او الواقع الافتراضي لربما يكون زائفا، وحيث ان الاحكام القضائية تصدر على وفق معطيات خارج نطاق مشاهدة القاضي فانها تعتمد على ما ينقله الاخر سواء كان شاهد او خبير او حتى اطراف الدعوى، لان الشهادة عبارة عن نقل لفظي او شكلي للمعلومات ومن خلالها يتحقق لدى القاضي العلم بالأشياء التي لم يكتشفها بنفسه ، الا اذا استعان بما يتوفر لديه من امكانية التحقق بنفسه عن الاشياء ومنها اجراء المعاينة، اذ تخلق ادعاءات الاطراف وتقارير الخبراء وشهادات الشهود صورة في ذهن القاضي قد لا تعبر عن حقيقة الأشياء مثال ذلك ان يتقدم احدهم بدعوى تملك اسهم في عقار يقع في منطقة تتسم بالرقي الحضاري وسعرها باهض جدا الا ان الدعوى كانت بثمن لا ينسجم والسعر الذي يعرفه القاضي عن المنطقة التي يقع فيها العقار والمالك الاصلي غائب عن المرافعة ويتولد الشك بوجود مواضعة او احتيال على ملك الغير بوسائل قانونية، لكن لو اجرى المعاينة بنفسه ووجد ان ذلك العقار يقع في زاوية مهجورة وبنائه قديم وهو عبارة عن سهام شائعة قليلة في عموم العقار وان طالب الدعوى الذي كان رث الحال وخلق الشبهة لدى القاضي يسكن العقار منذ ان ولد فيه وان والداه كانوا يسكنون العقار حينما كان عبارة عن مزارع مترامية الاطراف وهذه المعاينة غيرت الصورة من تخيل الى واقع يختلف عما ذكره الشهود واطراف الدعوى واصبحت هذه الواقعة تشكل معرفة في حدودها، لكن العمل القضائي لا يتعلق بوقائع وادلة وماديات قائمة حين الدعوى وانما افعالاً انتهت مثل جرائم القتل او السرقة، اذ لا يستطيع القاضي ان يطلع بذاته على الواقعة وانما له ان يدرك الواقعة من خلال اطلاعه على اثارها وما يدلي به شهود محل الحادث فتبنى المعرفة على السماع ويراها بما يصوره الاخرون فيكون لديه الاعتقاد الذي قد لا يشكل الحقيقة وانما يمثل حقيقة زائفة، الا ان القاضي لم يتوفر على ادلة او وسائل اخرى تنقل له الحدث كما هو مثال ذلك التسجيل الفيديوي لواقعة السرقة او القتل الا ان هذا التسجيل دون ان تعضده وسيلة اخرى يبقى يدور في تلك الاعتقاد ولا يرقى الى المعرفة المطلقة الا اذا قدم احد المختصين تقريرا فنيا بان الفلم الفديوي صحيح وغير ممنتج وهذا التقرير هو الذي يعزز قناعة القاضي بان الواقعة المنسوبة الى المتهم صحيحة وتبقى هذه القناعة ضمن حدود الاعتقاد الصحيح لانها وردت من خلال قناعات الاخرين وليس المباشرة التي يحصل فيها القاضي على العلم بالواقعة، وبذلك لا يمكن ان تسمى هذه الوقائع معرفة وانما اعتقاد صحيح قد يظهر لاحقا انه اعتقاد مزيف، ونجد ان الحصول على ادلة الاثبات او النفي للواقعة محل النزاع دائما لا تشكل معرفة والاحكام التي تبنى على هذه الوقائع تبقى عنوان للحقيقة وليس الحقيقة وهذا ما التفت اليه المشرع حينما جعل الاحكام تخضع للطعن لاجل التحقق من صحة ما ورد فيها وكثيرا ما تفسخ او تنقض هذه الاحكام لان اعتقاد المحكمة الاعلى من تلك التي اصدرت الحكم قد تغير تجاه الادلة على الرغم من انها ذات الادلة ولم يحدث عليها تغيير ، او لربما تقدم الاطراف بأدلة جديدة لم يتوفر عليها القاضي الاول وهذا يعضد القول بان الحكم القضائي لا يمكن ان يكون من مفردات المعرفة وهذا الاستنتاج يقودنا الى ان مجرد اختزان الذاكرة للسوابق القضائية والمبادئ التي تصدر عن محكمة التمييز او المحاكم العليا لا يمثل قيمة معرفية تثري المعرفة وانما تمثل اختزانا واكتنازا للمعلومة الواردة في الاحكام اما اذا كان السعي لتوظيف هذا الخزين من المعلومات تجاه تحقق المعرفة القضائية فاننا بحاجة الى تفعيل آليات التفكير في الاستنباط والاستقراء والاستبعاد في مفردات الوقائع والمعلومات المتوفرة في الدعوى او المكتنزة في الذاكرة وفي ختام القول انقل ما قاله دنكان بريتشارد في كتابه الملمع عنه حيث يقول في المعلومة المستمدة من الذاكرة (( الاعتقاد الذي يستند الى الذاكرة لن يكون مبررا ولن يغدو حالة من حالات المعرفة ما لم يدعم بما يكفي من الاسس المعرفية المستقلة اي انها لا تعتمد على الذاكرة )) .
نقلا عن موقع المحكمة الاتحادية