مبكراً توقفت عند الهوة الشاسعة التي تفصل الفزعات والشعارات عن صخرة الواقع وما يعرف بشروطها الموضوعية التي تتطيح بكل ما له علاقة بالأمنيات مقطوعة الجذور. هذا الوعي هو من انتشلني من لجة التحديات والتساؤلات التي واجهتها في غير القليل من مفترق الطرق والمحطات التي مررت بها، داخل الوطن وفي المنافي التي اضطررت للتواجد فيها نهاية السبعينيات من القرن المنصرم. لقد تعرفت جيدا على الإمكانات والملامح الفعلية لما يعرف آنذاك؛ بالمعارضة العراقية ومن شتى الانحدارات والتسميات والعقائد واليافطات، يسارية منها وقومية وإسلامية وبقية الجماعات السياسية، وقد بذلت كل ما امتلكته من جهد ومواهب وقدرات كي اتمكن من صياغة فهم أكثر واقعية عنها، وعن طبيعة النظام التوليتاري الذي بسط هيمنته المطلقة على تفصيلات حياة العراقيين داخل الوطن وامتدت سطوته الى الخارج أيضاً، بفضل الثروات الهائلة التي تدفقت للبلد نهاية السبعينيات. لذلك كله عدت الى الوطن بعد زوال النظام المباد، وأنا متخفف من الحمولات الآيديولوجية والعقائدية الضارة، ومن الأوهام وبنحو خاص فيما يتعلق بتعافي العراق السريع واسترداده لمكانة لائقة بين المجتمعات والأمم التي وصلت لسن التكليف الحضاري، فقد خبرت طبيعة المعارضة وفصائلها التي تلقفت زمام أمور عراق ما بعد “التغيير” وقد عبرت عن تشاؤمي هذا، والذي صدم غير القليل من أفراد عائلتي ومعارفي الذين التقيت بهم بعد فراق طويل، لكن مع مرور الوقت اقترب الكثير منهم من رؤيتي لمنحى التطورات والذي أكدته الأحداث لاحقاً، وهي توقعات لا تحتاج الى مأثرة أو عبقرية كي يتم استشراف عواقبها وتطوراتها المستقبلية، حيث بمقدور كل من لم تتلبسه حمى الأوهام والشعارات الجميلة مفصولة الجذور، والديباجات والنصوص الثوروية التي هجرها أصحابها الاصليون؛ من امتلاك مثل تلك البصيرة والرؤية المسؤولة للواقع وقدراته وتحولاته اللانهائية صوب الرقي والازدهار، أو الانحدار والانحطاط كما حصل لنا في العقود الأربعة الاخيرة.
لذلك وبالرغم من عودتي المبكرة للوطن (نهاية العام 2003) والتي عدها الكثير من رفاق المنفى بوصفها عودة الى المجهول؛ إلا أنني حافظت على التزام موقف مما جرى من أحداث وتطورات، يستند الى ما تراكم لدي من رأسمال قيمي ومعرفي وعملي، وهذا ما انعكس في كتاباتي وبقية النشاطات التي انخرطت فيها، حيث حذرت مرارا من الهرولات المتسرعة والتي تقفز على إمكاناتنا المتواضعة في هذا المجال (التغيير والإصلاح الفعلي لا الاستعراضي والتهريجي) من دون أدنى وجع من عقل ومسؤولية وضمير، كما أنني لم اصطف يوما مع المتشائمين ممن يلقون باللوم سريعا على “الشعب” الذي لم يقدر مواهبهم وقدراتهم القيادية وغير ذلك من المواقف اللامسؤولة التي تقترن بتلك القوافل المثقلة بالصخب والضجيج والدقلات المزاجية. ما يجري على تضاريس هذا الوطن من زحزحات واصطفافات، أدت غالباً الى إلحاق أبلغ الضرر بحاضر ومستقبل سكانه من شتى الرطانات والهلوسات والأزياء؛ هي نتاج معادلات محلية محضة، لا كما اعتادت الجماجم المبرمجة على ايقاع “المؤامرة” والتي تعفي “الجموع” من مشقة طرق دروب البحث والسؤال وفواتيرها المرهقة، لتلقي باللوم دائماً وأبداً على شماعة الشيطان وسلالاته الكبيرة والصغيرة، كما جرى الأمر في مضاربنا المنحوسة طوال أكثر من ألف عام وعام. من دون الانعتاق من براثن ثوابت الموت والتعفن والركود، وملحقاتها من عقائد ورايات وقوارض شرهة لا أمل لنا في النجاة من لعنة الرهانات الخاسرة..
جمال جصاني
الرهانات الخاسرة
التعليقات مغلقة