رجال ووقائع في الميزان

يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 40

حوارات مع جرجيس فتح الله*

س:بعد اداء هذه الشهادة الغريبة والجريئة فعلاً في جو تلك المحاكمات ماذا كان رد الفعل؟
لم الحظ تصرفاً نابيا من رئيس المحكمة الا انه بداء يختصر كثيراً من تعليقاته وتركني افرغ الشهادة دون مقاطعة الا اني لاحظت شيئاً اشبه بالوجوم يسود جو النظارة واقصد الهاتفين والمصفقين الا أنني لم اشيع مثل ما استقبلت به ولا بما لم يكن يعود ذلك الى تنويهي بالحسن من اعمال القزاز بل تخلو شهادتي مما اعتادوه من حماسه او عبارات تهجم منمقة اعتادوا سماعها من شهود أخرين
س: اختلفت الآراء في تعليل اختبار (قاسم)ضحيته (القزاز)من دون سائر الوزراء ورؤساء الوزارات لتنفيذ حكم الموت وقيل ان ضغوطاً وقعت عليه من جانب الشيوعيين وانه كان يود ارضاءهم بهذا
ليس هذا بصحيح في رأيي عندما تضيع القيم الشريفة وتقاس الفضيلة بالنعال ولا يعود لمكارم الاخلاق ثمن كما رأيت في دفاع المحامي وعندما يخلي السبيل لأكثر الاراء شذوذاً يبدو أوهى الأسباب واضعف التعاليل أعظمها وجاهه وهؤلاء الذين يريدون اللقاء التعبة على الشيوعيين أو غيرهم انما مثلهم كمثل من يلقي التبعة في فشل الرواية التمثيلية على النظارة او الممثلين الثانويين الصامتين (الكوميارس)انفاذاً لسقطات (المخرج) وهو المسؤول الحقيقي هؤلاء يريدون استنفاد بغضاً من سمعه قاسم وهذا ليس بصحيح مطلقاً بمنظور تلك الحقبة العجيبة من تاريخ العراق المحكمة بأعضائها وادعاؤها العام
والنظارة والشهود والضجيج الاعلامي هي جانب من دراما ألفها وأخرجها شخص لا واحد هو (قاسم )الذي بقي يتحكم في فصولها ومشاهدها من المبدأ الى المنتهى انتخاب الممثلين استئجار الهاتفين والنظارة والممثلين الثانويين فهو الذي يجمعهم ويوزع ادوارهم وهو الذي يتصرفهم عند انتهاء الحاجه اليهم وهو وحده الذي وفع امر التنفيذ الحكم ولم يكن ثمه احد معه.
وأما لماذا اختار القزاز من دون غيره هذه النهاية وهو لا ينقم عليه لشيء شخصي فمرده في رأي اي اسلوب الموازنة الشاذ الجنوني الذي ولع به قاسم وطبقه في حالات عده برغم تحدي هذه الموازنة لمنطق السليم والعقل الراجح رافقته تلك الموازنة عند اختيار أعضاء حكومته الاولى وعندما هندس بيده شعار الدولة الجديد فأرغمته تلك الموازنة على جعل الخنجر الكردي يساوي السف العربي طولاً ورافقته في اختيار أعضاء مجلس السيادة الثلاثة كردي ,سني عري ,شيعي عربي ,فما الضير في اختيار من يضع رقابهم في حبل المشنقة على عين النسق ؟:القزاز (كردي)فهمي (سني عربي ) العطيه (شيعي عربي ) موازنه دموية

عبد الكريم قاسم
س:الحديث سيدور الان حول عبد الكريم قاسم حكمت الصدف ان هذا الشهر الذي نحن فيه كان موعد سقوطه ومقتله اثر انقلاب الثامن من شباط قبل ثمان وثلاثين سنة. في الحلقة السابقة (الثانية عشرة) نختتم حديثكم بملاحظة عنه ذات دلالة خاصة وأهميه لأنها تتعلق بكيفية اتخاذ هذا الحاكم المطلق قرارته المصيرية اضافه الى ما ورد عنه في كتابكم “العراق في عهد قاسم ” فأننا نتوقع ها هنا اقوالا واراه فيه وفي حكمه قد تختلف عما قرأناه عنه في كتب عديدة او تضيف اليها اموراً مستجدة هل كانت لكم علاقه شخصية به ؟
كلا قط لم تكن لي به ايه صلة ولم انشد أو أتمن انفسي اي لقاء به او مجالسة. لاسيما بعد ان عرفت بالمتواتر الثابت انه لا يتيح لاحد مجالا ً للكلام ويحتكر الحديث ويسد على مجالسه او زائره باب الافصاح عما يجول في خاطره كانت هنالك مناسبات ثلاث للقاء على ما اتخطر فلم اطلبها: اثنتان ضمن وقد دعيت للمشاركة فيه. وواحده اقترحها صديق ذو نفوذ ومن المقربين بوصفي صحفياً وبمناسبه مؤتمر صحفي صغير وهذه كما ترى لا تفيد شيئاً في دراسة وتقويم لشخصية هيمنت على تاريخ العراق ومقدرات العراقيين فترة تزيد عن اربع سنوات وستة اشهر بل كانت سيلبي الوحيدة اليها متابعة اقواله عن خطب وتصريحات ومؤتمرات صحفية واكثرها عفوي وغير معد ومن اجراءات رسمية تتعلق بتصريف شؤون الدولة الا اني اضطررت الى مواجهة صحفية معه في مناسبتي اولاهما استجابة الى الظروف السياسية الصعبة التي كان يمر بها العراقيون في فترة عصيبة من الزمن فقد دعوت وأنا كاره وعلى صفحات جريدتي الى مساندته ورص الصفوف وراءه حين اشدت لضغوط القومية العروبية من الخارج من خلال المعركة التي نشبت بين عبد الناصر وبينه مره اخرى حين بدا التسلك اليساري يهدد حريات الناس بالاستيلاء التام على الشارع وكان علي وعلى امثالي اختيار اهوان ثلاثة أي مساند الدكتاتور وحينذاك لم يكن يدور في خلدنا ان هذا الرجل قار على انهاء التحكم اليساري وتنظيف الشارع بضربه واحده أجل بضربه واحده وبأنه قادر على الصمود وحده ازاه عبد الناصر وكانت غلطه الديمقراطيين وسوء تقدير
وفي المرة الثالثة تحديته على صفحات جريدة “خه بات” عندما قصد في واحدة من خطبه المرتجلة النيل من سمعه ملا مصطفى البارزاني
س:متى كان ذلك ؟
المرة الاولى في الموصل وعلى صفحات جريدة الحقيقة في وقت ما بين شهري حزيران وايار 1959 والثانية في اوائل العام 1961 ببغداد على ما اذكر.
على اني مع هذا تذكرت به وبصدفه عجيبة ذلك الملازم الاول الذي استهدفت حياته المسلكية الى الخطر بل مستلقيه برمته عندما سبق في العام 1935_1936 متهماً مع اثنين اخرين مدنيين بجريمه اخلاقية بريء منها وقد اتيت الى الحادث بتفاصيله في الصحائف 524-526 من الجزء الثاني لكتابي “العراق في عهد قاسم ”
حول عبد الكريم قاسم ألفت كتاباً تناولت سيرته وانجازه ونشاطه وحول دعوه حكمه صدر من الكتاب اضعاف ذلك وانا وياها يومياً في مكتبتي الصغيرة في مدينة كاترينهولم في السويد تحتل رقاً كاملا وقد انها جميعاً وبها ذهب مؤلفوها واصحابها فيما تناولوه من هذه الشخصية مذاهب شتى وهي كلها لاحظت مظاهر اعياء في الوصول الى تقويم عمومي الطابع مؤهل لتقديمه للتأريخ العام بالاقل لتاريخ المنطقة بكل نجاحاته وسقطاته وقفزاته وكبواته بعضهم دافع عنه دفاع المستميت وجاهد جهاداً صادقاً في ابراز حسنات حكمه متعمداً اغفال هفوات وسقطات وسيئات وبعضهم ركز تركيزاً مقصوداً على هذه السوءات الثلاث وكان ثم تطرف خارج عن المعقول من الطائفتين ثم كان هنالك فريق ثالث من الكتاب اعيته الحيل في امره واعجزه التوفيق بين التطرف في الموازنة والمتناقض من الافعال والمبادرات التي اقدم عليها هذا الرجل الذي وضعت الاقدار مصائر الشعب العراقي والبلاد في يده ردحاً من الزمن لا سيما تلك التحولات المفاجئة نه التي تغلب عليها العاطفة كما تبدو أكثر مما يغلب عليها المنطق والفكر السليم ليبدو لهذا الفريق في اخر المطاف “لغزاً محيراً” وأظنني وقفت ذات يوم على كتاب حوله لم يجد صاحبه عنواناً مناسباً له الا هذا “عبد الكريم قاسم اللغز المحير ” وخلص بعضه من هذه الحيرة الى القول “بأن قاسماً هو شخصيه معقدة جداً” ولم يجراً ممن وصفه بهذا على النفوذ الى اغوار هذا التعقيد والبحث عن مأتاه وكم اثر ذلك على مستقبل العراق السياسي وغير من مصائر اهله ولم يخطر ببالي انا شخصياً وفي اي وقت الانضمام الى هذه الجمهرة من المؤلفين ال عندما تحتم علي التطرق الى عصره والية _في سياق كتابي الذي اعمل فيه _((حول المد القومي العربوي وجزره , تاريخاً وتحليلاً )) ولو لم تحكم الصدف أن احمل معي مسودات هذا الكتاب الى كردستان اضافه الى دفاتر ملحوظات وأوراق سجلت فيها طائفه كبيره من اقواله وخطبه لاعتذرت عن الإجابة حوله ففي الحديث عنه وبالشكل الذي انتويه وتريده أنت لامندوحه هناك من الاستشهاد والتدليل بنصوص على صحه ماأفترضه وأعرضه والذاكرة في هذا المجال لاتسهم الا بالقليل وقارئ حديثي لايكتفى بالرأي المجرد دون دعم.

*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة