سمير خليل
بغداد، عبق التاريخ وألق الماضي، العاصمة الحبيبة، تحتضن شواهد ارثها الحضاري والثقافي والاجتماعي، شواهد ما زالت تنبض بالحياة برغم ما مر عليها من خراب.
سوق الهرج، أحد شواهد تاريخ بغداد، وهو اقرب الى زقاق واسع، لكنه متعرج وطويل، تنفتح بدايته على شارع الرشيد من جهة منطقة الميدان، ويجاور الحيدر خانة، ودكان شناوة، ومحلة السراي
كانت كل بضاعته عتيقة ومستعملة وتتوزع المحلات القائمة على جانبيه والبسطات على ارضه.
وكلمة هرج باللهجة العراقية الدارجة تعني صخب، وسمي بسوق الهرج نتيجة للأصوات العالية للباعة والمنادين على البضائع حين تعرض بما يشبه المزاد، وينادي الدلال بصوت عالٍ للترويج على البضاعة، وبعد أن ترسو على شخص معين يصرخ الدلال بكلمة هرج.
ومعنى الهرج في معجم اللغة، “هرج في كلامه” أي خلط، وهرج و مرج، تجدها في القاموس الفارسي بمعنى فوضوي، والتسمية التركية لـ(سوق هرج) تعني الفوضى وعدم النظام، أو قد تكون كلمة هرج تعني الرخيص أو (التنزيلات) كما يحلو لنا نحن العراقيين تسميته.
تتداخل اصوات البائعين مع الاغاني التي تنطلق من اسطوانات حسن خيوكة، ورشيد القندرجي، ومحمد القبانجي، وزكية جورج، وصديقة الملاية، وناظم الغزالي، ولميعة توفيق، ووحيدة خليل، وداخل حسن، وحضيري ابو عزيز، وعزيز علي، والمطربين العرب ام كلثوم، واسمهان، وفريد الأطرش، وغيرهم. ويرجع تأريخ بناء هذا السوق إلى عهد الدولة العثمانية، حيث شق الوالي العثماني ناظم باشا شارعاً سمي باسم شارع (خليل باشا جاده سي)، وهو أسم خليل باشا حاكم بغداد عام 1910م، ثم سمي باسم شارع الرشيد، وسمي باسم سوق الميدان وهي التسمية العربية القديمة له.
مرت على السوق أيام سعيدة، واخرى حزينة، لكنه ازدهر ابان الحكم الملكي للعراق، وكذلك في العهد الجمهوري بعد ثورة (1958 (.
الاشياء التي كان يتداولها السوق، التحف، والانتيكات، والادوات المنزلية الزجاجية، والملابس المستعملة، والدراجات الهوائية، والمراوح، والاجهزة الكهربائية القديمة من راديو وتلفزيون وفونوغراف، والاوراق النقدية القديمة، ومكائن الخياطة، إضافة للأقفال والمفاتيح، والمحابس والتحفيات والمسبحات، والأخيرة، الاكثر رواجا ومبيعا في سوق الهرج اليوم، إضافة لمحال ومعامل الاثاث الصغيرة والتي بدأت تشغل اماكن من السوق وتعرض هذه المحال اثاثا قديما بعد إصلاحه، وآخر حديثا بصناعة عراقية تقليدية.
ويعد يوم الجمعة، اليوم الذهبي خلال الأسبوع. يحتفظ السوق بذكرياته مع زواره المهمين من ساسة وادباء وفنانين وعلية المجتمع منذ العهد الملكي، وتشير المصادر الى ان نوري السعيد رئيس الوزراء في العهد الملكي كان يتجول احيانا في سوق هرج الذي كانت تجاوره سينما رويال، وخان المدلل نسبة الى بيت المدلل، وملهى الهلال الذي غنت به السيدة ام كلثوم عند زيارتها لبغداد عام 1932 وحينها لم يستوعب المكان كثرة الجمهور الغفير الذي جاء ليستمتع بصوت ام كلثوم، فافترش ارضية ساحة الميدان ليستمعوا الى غنائها عن طريق مكبرات الصوت.
ومن شخصيات هذا السوق تبرز اسماء المصارع عباس الديك، والحاج عاتي، والحاج صبري المصارع، وحمد الكربلائي، والقزم خليلو الذي كان يتحدث بالسياسة دائما برغم انه لا يفقه بالسياسة شيئا.
اما أشهر شخصيات هذا السوق فهي حسنة ملص، الدلالة التي كانت ترتدي ملابس الرجال، وسميت ملص لأنها لم تنجب أطفالا، وعباس بيزة الذي ورد انه زوجها.
بعد العام 2000 صار سوق الهرج يبكي ماضيه العتيد، فقد السوق نكهته بعد تنامي التكنولوجيا، ودخول البضائع من شتى المناشئ، وبأسعار زهيدة، مما جعل الناس يعزفون عن شراء العتيق، ومع ذلك بقي عدد من الباعة متمسك ببضاعته وقدمها، ويرتادون السوق بنحو يومي مثل بائعي الملابس القديمة، وورش تصليح اجهزة التلفاز والراديو والمسجل القديمة والاثاث القديم.
جدير بالذكر ان اسواقا تحمل الاسم نفسه بدأت تنتشر في محافظات العراق مثل اسواق الهرج في الناصرية وكركوك والسليمانية والموصل.
سوق الهرج.. من شواهد بغداد وعبق إرثها وماضيها
التعليقات مغلقة