محمد زكي ابراهيم
ثمة أسماء كثيرة في الوسط الثقافي، ذات موهبة وعلم وذكاء، لا حظ لها في هذه الدنيا إلا النسيان، ولا جزاء لها في هذا الكون إلا الإهمال. وليس سبب ذلك سوى ما جبلت عليه من أدب جم، وخجل شديد. فهي تؤمن أن سر النجاح هو التواضع، وتوقن أن طريق المجد هو العزوف عن الشهرة.
وعلة إيمانها بهذه الفكرة أخلاقي بحت. ليس لأن التواضع هو صفة الأنبياء والأولياء فحسب، بل لأن الناس يعشقون من لا يجيد الحديث عن نفسه، ويتعاطفون مع من لا يتباهى بماضيه. ورائدهم في ذلك الحكمة الصينية : اصمت ودع عملك يتكلم!
ومع أن الزمن تغير، ولم يعد بإمكان أي عمل ناجح أن يتكلم بمفرده، وليس بمقدور أي إنجاز مهم أن يظهر بذاته، إلا أن الأفراد مازالوا يؤمنون أن العظماء هم من هذا الطراز، وأن الناجحين هم من أهل هذه الصفة. وإذا ما أخذ أحدهم يكثر من كيل المديح لملكاته الأدبية، أو إنجازاته العلمية، ويطنب أحياناً في الترويج لفتوحاته الغرامية فلن يسلم من الغمز واللمز، والسخرية والازدراء، حالما يغرب شخصه عن الأنظار!
ولاشك أن هذه الفكرة تفتقر إلى الموضوعية. فالناجحون ليسوا «متواضعين» أبداً، وربما كانوا عكس ذلك تماماً. فلا توجد عقبة في طريق النجاح أشد خطراً من التواضع. وقد يكون المرء على جانب كبير من الذكاء، لكنه لن يحصل على الأجر المناسب لذكائه، وقد يكون على قدر كبير من الفضل، لكنه لن ينال الشرف الذي يستحقه لفضله، وسيبقى خارج المعادلة طيلة حياته.
إن معنى التواضع هو أن يترك المرء المقاعد الأمامية لسواه، ويقنع بالجلوس في الصفوف الخلفية، وهو يعلم أنها ليست مكانه. وينسحب منها في الوقت الخاطئ، دون أن يترك أثراً أو علامة.
والواقع أن الموهوبين موجودون في المنازل والجامعات والمكاتب الحكومية، لكن أحداً لن يكلف نفسه عناء البحث عنهم. ولن يكون نصيبهم إذا ما ركنوا للدعة سوى كلمات ثناء خجولة من هذا الطرف أو ذاك.
وإذا كان البعض يضجر من تضخم أنا الغير، ويتضايق من تغول ذات الآخر، فهذا شأنه هو وحده، ولا سلطان لأحد عليه. فالأناني يشعر بالسعادة، لأنه يبرز فضائله، ويشيد بمآثره، وفي ذات الوقت يحرم الآخرين من القيام بهذا الدور، ويثنيهم عن التمتع بهذه النزعة، وهذا في حد ذاته – كما لا يخفى – مكسب عظيم!
إن أصحاب الموهبة معرضون للفشل، وسائرون نحو الإخفاق، إذا ما استكانوا لفضيلة التواضع. وفي ذلك ما فيه من خسارة لهم وللبلد والمجتمع والناس. وعليهم أن يتداركوا وضعهم قبل فوات الأوان. حتى لو عرضهم ذلك لصنوف الإيذاء والحسد والازدراء. ففي النهاية سيكونون هم من يجنون الشهرة والمال والنجاح. وستكون أعمالهم محط نظر القراء أو المتابعين أو الهواة أو النقاد على حد سواء!