اعداد مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية
تصاعدت المؤشرات الدالة على اهتمام حكومة هولندا بصراعات الإقليم، وخاصة في اليمن وسوريا والعراق وليبيا، على نحو انعكس في تبرعات ومساعدات، تتعلق بإدارة المياه ودعم قطاع الزراعة وجودة التعليم وتسريع إعادة الاستقرار، فضلاً عن الانخراط في تحالفات دولية لمواجهة الإرهاب العابر للحدود، لدوافع مختلفة ترتبط بالحد من تدفقات اللاجئين إلى الدول الأوروبية وإتاحة الفرصة للهجرة النظامية وتحجيم عودة المقاتلين الأجانب إلى الوطن الأم والحد من تمدد السلفية الجهادية الهولندية والاستفادة من عقود إعادة إعمار الدول المنهارة وتعزيز العلاقات الاقتصادية مع القوى الرئيسية.
وبرغم الانطباع السائد في الذهن العام بأن هولندا دولة صغيرة في القارة الأوروبية مقارنة بفرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا، ولا تنخرط في تفاعلات القوة المسلحة بالعالم مثل دول القارة، إلا أن ثمة مجموعة من المؤشرات التي تعكس الاهتمام المتزايد من جانب الحكومة الهولندية ببؤر النزاعات الشرق أوسطية، يمكن تناولها على النحو التالي:
إدارة المياه:
1- إعلان الحكومة الهولندية استعدادها للتبرع بمبلغ 30 مليون يورو لدعم وخلق فرص العمل بالمشاريع الصغيرة في العراق، ودعم بغداد بخبرات في مجال إدارة المياه، حيث تعاني العراق من أزمة خانقة نتيجة قيام تركيا ببناء عدد من السدود على الأنهار المشتركة مثل دجلة، وهو ما ورد في بيان مجلس الوزراء العراقي الصادر في 25 يونيو الماضي، إذ تطرق لقاء رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي مع وزيرة التجارة الخارجية والتعاون التنموي الهولندية سيغريد كاغ إلى مناقشة تعزيز التعاون الاقتصادي بين البلدين.
دعم الزراعة:
2- إقرار أمستردام برنامج مساعدات تنموية للدول المتأثرة باللجوء السوري (الأردن، لبنان، تركيا) بقيمة 400 مليون يورو للأعوام (2019-2022)، على نحو تم الإعلان عنه في 24 يونيو 2018 خلال لقاء وزيرة التجارة الخارجية والتعاون التنموي الهولندية سيغريد كاغ مع وزيرة التخطيط والتعاون الدولي الأردنية ماري كامل قعوار في العاصمة عمان، بحيث تركز المساعدات على القطاعات ذات الأولوية للحكومة الأردنية، وخاصة دعم التنمية الاقتصادية من خلال قطاعات الزراعة والتجارة والتعليم والتدريب المهني والتعليم التقني.
ويعكس هذا الاهتمام الهولندي تقدير موقف الحكومة الأردنية الداعم للاجئين السوريين، الذين تشير بعض التقديرات إلى أنهم يقتربون من 1.3 مليون لاجئ، على نحو يفرض ضغوطًا مكثفة على الاقتصاد الأردني وقطاع الخدمات فيه، وكانوا أحد العوامل المؤدية لتفاقم الاحتجاجات خلال الأسابيع الماضية. واللافت للنظر أن ثمة جهودًا لنقل الخبرات والتكنولوجيا الهولندية في الزراعة والكفيلة بتقنين استهلاك المياه ورفع جودة المحاصيل الزراعية في ظل محدودية المياه، وهو ما يتم عبر عقد ورش العمل بهدف تدريب المزارعين الأردنيين.
جودة التعليم:
3- توقيع الحكومة الهولندية ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة «اليونيسيف»، في 16 مايو الماضي، اتفاقية لدعم برنامج تعليم 150 ألف من الأطفال النازحين واللاجئين والعائدين إلى ديارهم والمناطق المستعادة من سيطرة تنظيم «داعش»، بحيث سيساهم البرنامج في ضمان جودة التعليم باتباع نهج الإدارة الذاتية للمدارس الذي يشرك المعلمين وأولياء الأمور والمجتمعات المحلية بشكل مباشر في تعليم الأطفال ويزودهم بالمهارات اللازمة لتحديد وتنفيذ التغييرات الإيجابية في المدارس، بالإضافة إلى تدريب 5 آلاف معلم ومعلمة في الأقل حول طرق التدريس الحديثة.
وثمة تصريحات متعددة تعكس ذلك الاهتمام الهولندي، إذ قال بيتر هوكينز ممثل منظمة اليونيسيف في العراق أن «مساعدة الأطفال في الحصول على تعليم جيد لن يؤدي فقط إلى تحقيق الانتعاش والتعافي في الوقت الحاضر، بل سيضمن مستقبلاً أفضل لجميع الأطفال». كما قالت مارييل خيريتس القائمة بأعمال السفارة الهولندية في العراق: «لقد رأيت بأم عيني حجم العبء الذي تتحمله المدارس، حيث تعمل المدارس في أحيانٍ عديدة بضعف طاقتها من أجل توفير التعليم للأطفال العائدين أو النازحين».
تسريع الاستقرار:
4- تقديم مبلغ 5 مليون يورو إلى برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، في مارس 2016، لمساندة جهود إعادة الاستقرار في المناطق المحررة من سيطرة تنظيم «داعش»، وستحول المنحة على دفعتين إلى صندوق تمويل الاستقرار الفوري التابع للبرنامج الإنمائي، الذي أنشئ في يونيو 2015، ويساعد المناطق المحررة في الأنبار وصلاح الدين ونينوي وديالي والرمادي، في إعادة تأهيل البنى التحتية، وإطلاق الاقتصاد المحلي، وتعزيز قدرة الحكومة، وتشجيع المصالحة المجتمعية.
وفي هذا السياق، قالت الممثلة المقيمة لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومنسقة الشئون الإنسانية في العراق، ليز غراندي، خلال مراسم التوقيع في 31 مارس 2016 في بغداد: «إن مئات آلاف النازحين العراقيين جاهزون للعودة إلى منازلهم في المناطق المحررة. وأحد أهم أولوياتنا المساعدة في إعادة الاستقرار إلى هذه المناطق، التي دمرت أجزاء واسعة منها بشكل كبير. نحن ممتنون جدًا لدعم الحكومة الهولندية السخي».
إدخال المساعدات:
5- التأكيد على الحل السلمي المستدام للأزمة اليمنية، وذلك خلال مقابلات المسؤولين الهولنديين مع نظرائهم اليمنيين أو الغربيين، حيث تمثلت توجهات أمستردام في حث جميع الأطراف المعنية على إنهاء الصراع وإيجاد حل سياسي والسماح بالوصول الآمن والسريع للموظفين والإمدادات الإنسانية، وتسهيل الحصول على الواردات الأساسية من الأغذية والوقود والإمدادات الطبية، وفتح جميع الموانئ بشكل كامل ومستمر مع التعهد بتقديم مساهمة لتمويل أنشطة الأمم المتحدة الإنسانية في اليمن خاصة من خلال عضوية هولندا الراهنة في مجلس الأمن.
وفي هذا السياق، أشارت وزيرة التجارة والتعاون الدولي في الحكومة الهولندية سابقًا ليليان بلومان في لقاء مع سفيرة اليمن لدى هولندا سحر غانم في 31 مايو 2017، إلى حرص حكومة بلادها المستمر على مواصلة دعم الشعب اليمني سواء من خلال المساعدات الإنسانية المباشرة لكل المناطق المحاصرة من قبل ميلشيا الحوثي أو دعم مساعي السلام بين أطراف الصراع. كما أكدت وزيرة التجارة الخارجية والتعاون التنموي الهولندية سيغريد كاغ على دعم بلادها للشرعية في اليمن خلال لقاء الرئيس عبدربه منصور هادي في 19 فبراير الماضي.
إن هناك مجموعة من العوامل التي تفسر اهتمام امستردام بتفاعلات الصراعات في الإقليم، وهى:
مساعدة اللاجئين:
1- الحد من تدفقات اللاجئين إلى الدول الأوروبية، التي تمثل أحد التحديات التي تواجه هولندا وغيرها، بما يجعلها تركز على حل الإشكالية من المنبع أو بلورة حلول خاصة مثل إعلان الحكومة الهولندية، بداية من ديسمبر 2016، عن منح أى يمني يصل إلى هولندا بجواز سفره بعد تفاقم الصراع حق الحماية والإقامة فيها، على أن يكون دخل البلاد بتأشيرة هولندية ولا يكون تورط في حمل السلاح وألا يكون قد وضع بصماته في أي سفارة غير السفارة الهولندية. فهناك هدف حاكم لأمستردام يرتبط بإجهاض المد المتنامي للاجئين.
تقنين الهجرة:
2- إتاحة الفرصة للهجرة النظامية، وقطع الطريق أمام عصابات تهريب البشر التي استغلت وقود الصراعات المسلحة، إذ لم يقتصر اكتشاف الشبكات على دول الإرسال بل امتدت إلى دول الاستقبال أى دول الاتحاد الأوروبي، ولا يشترط انتماء المهرب إلى الدولة نفسها التي يسعى بعض سكانها إلى الهرب من أوضاعها الداخلية، فالعديد منهم يحملون جنسيات مختلفة، إذ يتواجدون عند نقاط العبور إلى الدول الأخرى، والحدود فيما بينها. وقد ازدادت أدوار هذه العصابات لأنها تدر أرباحًا مالية طائلة تتجاوز ما تحققه تجارة السلاح والمخدرات في بعض الأحيان.
مخاطر المقاتلين:
3- تحجيم عودة المقاتلين الأجانب إلى الوطن الأم، حيث انخرط عدد من الهولنديين «السلفيين» من أصول عربية وإسلامية في الصراع الدائر بين قوات المعارضة المسلحة والجيش النظامي السوري، فضلاً عن انضمام بعضهم إلى تنظيم «داعش»، بخلاف المتعاطفين والأنصار. وتشير بعض التقديرات الهولندية إلى أن هذا العدد يتراوح بين 50 و100 هولندي، في حين ترجح تقديرات دولية أخرى ازدياد هذا العدد نتيجة تسهيل شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي تجنيدهم وسفرهم وتصنيعهم المتفجرات.
وثمة مخاوف من احتمال عودة هؤلاء مرة أخرى إلى هولندا، وهو ما يدركه جهاز الاستخبارات الهولندي، لا سيما في ظل تفاقم تهديد جماعات «السلفية الهولندية». فقد تحولت الحركة السلفية الهولندية إلى أرضٍ خصبة للجهادية، وتحولت إلى لوبيات مغلقة، وينتمي أغلبهم إلى الجيل الثالث والرابع من الهولنديين من أصل مغربي، ويمزجون بين غير المتعلمين والحائزين على شهادات جامعية، ويتجهون إلى التطرف ويسافرون إلى سوريا للجهاد.
وفي حال عودتهم، تضعهم أجهزة الاستخبارات الهولندية في إقامات سرية آمنة لأنهم يشكلون خطرًا حادًا على حياتهم، إذ أن التنظيمات المتطرفة في أوروبا تعدهم خونة ومرتدين وجب قتلهم بعد رحيلهم من «أرض الجهاد» في سوريا والعراق. على جانب آخر، يعد هؤلاء الإرهابيون مصدر تهديد لغيرهم. لذا يتم التحقيق معهم واستنطاقهم للكشف عن الخلايا النائمة في لاهاي وامستردام وأوتريخت، وهو ما يتم بالتعاون مع البلديات المحلية، فيما توضع النساء داخل مراكز الإيواء التي تضم مطلقات وضحايا العنف.
كما تشارك هولندا، منذ انضمامها في يناير 2016 للتحالف الدولي ضد «داعش»، في مساندة حكومة العراق في تحرير أراضيها من هذا التنظيم الإرهابي، حيث قامت طائرات حربية هولندية من طراز إف-16 بقصف أهداف تابعة للتنظيم في فبراير 2016، بناءً على طلب الولايات المتحدة وفرنسا. وهنا أشادت سيغريد كاغ خلال لقاءها العبادي في 25 يونيو الماضي بـ»إنجازات العراق في حربه ضد الإرهاب والإرهابيين، وخصوصًا النصر الذي تحقق بدحر داعش وتحرير الأراضي العراقية من سيطرته».
كعكة الإعمار:
4- المساهمة في إعادة إعمار الدول المنهارة، وهو ما يأتي بعد الدور الهولندي في تعزيز فرص فئات المجتمع المتضررة من سيطرة الميلشيات المسلحة والتنظيمات الإرهابية، والمساعدة في إعمار المناطق المحررة من «داعش»، حتى لا تكون هناك نافذة فرص لعودة أى من بقايا التنظيم وخاصة على الحدود الرخوة السورية- العراقية. وهنا، يمكن للشركات الهولندية أن تستفيد من عقود إعادة الإعمار في بؤر الصراعات، وتحديدًا في العراق، لا سيما المتخصصة في مجالات محددة مثل إدارة المياه والزراعة.
شراكة التجارة:
5- تعزيز العلاقات الاقتصادية مع القوى الرئيسية، إذ تحرص الحكومة الهولندية على توسيع شبكة تجاراتها واستثماراتها مع دول الشرق الأوسط، والتي تتوافق معها في الرؤى تجاه الصراعات الإقليمية. فقد أشار فرانك مولين، السفير الهولندي لدى الإمارات، في تصريح لصحيفة «الاتحاد» الإماراتية في 6 فبراير 2018، إلى النمو الذي يشهده حجم التبادل التجاري بين البلدين، مؤكدًا أن الإمارات تعتبر أهم شريك تجاري لهولندا في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
كما أن الإمارات تعد واحدة من بين أهم 25 سوق للصادرات الهولندية، حيث ناهزت قيمة التبادل التجاري بين البلدين نحو 2 مليار يورو في عام 2016. كما تقدر قيمة الاستثمارات الأجنبية المباشرة عبر الشركات الهولندية في الإمارات بـ40% من إجمالي الاستثمارات الهولندية في منطقة الخليج، ويقدر عدد الشركات الهولندية التي تتخذ من الإمارات مقرًا لها في المرحلة الحالية نحو 250 شركة. ولعل التوافقات بدرجة كبيرة في الرؤى بين البلدين تعزز من المصالح الاقتصادية.
انعكاسات الفوضى:
خلاصة القول، إن اهتمام هولندا بتفاعلات الشرق الأوسط كمنطقة مضطربة نابع من إدراك حكومتها لانعكاسات الفوضى الإقليمية على أمنها الداخلي، من زوايا متعددة، على نحو يفرض عليها القيام بأدوار متوازية ترتبط بدعم جهود وقف إطلاق النار ومساعي إرساء السلام، وإيواء اللاجئين الفارين من نيران الصراعات، والتصدي لجماعات المصالح الاقتصادية العاملة في مجال تهريب البشر، وخاصة عبر تركيا، وتعزيز جهود التحالفات الدولية المناهضة للجماعات الإرهابية، ودعم الجماعات المسلحة مثل «البيشمركة» من خلال توفير الإسناد الجوي لها في مواجهتها لـ»داعش». فهولندا تدرك أنها إن لم تأت إلى الشرق الأوسط فإن الأخير سوف يأتي لها.