استذكار .. في بيت كامل شياع

حسين محمد عجيل
بعد نحو نصف عام على اغتيال المفكر والسياسي كامل شياع، وفي ظهيرة يوم 5 آذار 2009، قدّر لي من دون سابق تخطيط أن أتفحص عن كثب المسكن المؤجر الذي كان يعيش فيه الرجل العائد من تجربة حياة أمدها عقدان في بلجيكا. صحبني مدير إذاعة راديو الناس الصديق الاعلامي خليل الموسوي، والسفير فيما بعد، في جولة بمباني الإذاعة التي أسسها ببغداد بجهود ذاتية. وكان الرجل يحاول المساعدة في تأمين مكتب جديد نتخذه مقراً لوكالة (أصوات العراق) في العاصمة أكثر أمناً من مكتبها القائم وقتها. ولفت نظري في الجولة أنه تجاوز مبنى ظننته مفيداً لاتخاذه مكتباً معقولاً، وحين سألته عنه قال إن مفتاحه ليس معه، لكنني أحسست بحالة من الحزن المفاجئ بانت على وجهه. وفي أثناء ارتشافنا للقهوة في مكتبه، أعدت الإشارة للمكان من دون معرفة بطبيعته، فطلب الرجل من سكرتيرته أن تجلب المفتاح، وتوجه معي إليه صامتاً. كان المبنى مكوناً من طابق واحد، وهو مسيج بإطار حديدي مكشوف وغير مرتفع، وتحيط به حديقة جفت نباتاتها.
حين دلفنا إلى الداخل، وجدته مؤلفاً من غرفة كبيرة مستطيلة تحوي شباكاً واسعاً على الحديقة، وفي طرف منها سرير مرتب بعناية، وعلى جانبه منضدة بسيطة عليها عدة كتب، وأمام السرير مكتبة كبيرة عالية أخذت نحو نصف الجدار.. وثمة غرفة ثانية ومطبخ وملحقات أخرى. وبينما كنت أقلّب في بعض عناوين المكتبة المتنوعة المصادر، تصلّبت في مكاني حين أخبرني الموسوي متألماً.. بأن هذا كان مسكن كامل شياع..
أحسست أن عليّ أن أعيد مشاهدة ما رأيته من جديد، وتداخلت مع إعادة اكتشاف البيت صور متلاحقة في ذهني عن الشخصية العصامية التي كان خبر اغتيالها يوم 23 آب 2008 بيد عناصر إرهابية وسط بغداد صادماً لكل الأوساط داخلياً وخارجياً، ولا سيما الوسط الثقافي العراقي الذي نجح شياع في أن يكون جزءاً عضوياً منه.
وبرغم أن معرفتي به لم تكن وثيقة، لكنني استعدت شريطاً طويلاً من مرات عديدة التقيت به في جريدة المدى بشارع أبي نؤاس منذ نهاية العام 2003، حيث كان يتردد عليها وينفتح بشخصيته البسيطة والعميقة في آن، وبأسلوبه المحبب في إدامة حوارات معمقة بلا ضفاف ولا محددات مع كادرها وزوارها من الأدباء والكتاب والصحافيين وجمهرة مثقفين وجدوا في شياع أنموذجاً مختلفاً عن طبقة سياسية كانت تتشكل ملامحها ببطء وقسوة، متخذة من إشكالات ماضٍ ملتبس أساساً تصنيفياً لها، وعلى نحو لم يتوقعه البعض أخذت تحاول تشكيل الرأي العام العراقي على غرارها. فيما كان شياع مسلحاً بخبرات أكاديمية رصينة وعقلية تحليلية فذة، وظّفت تجارب حياة ثرية ومصادر متعددة لثقافة رفيعة، للخروج بتفكير علمي قادر على أن يستوعب لحظة عراقية مكثفة ومشحونة بعناصر صراع، كان بحاجة لتفكيك المعقّد منها إلى أولياته، ليمكن فهمه وإعادة إنتاجه بما يحقق مصلحة مجتمع فقد دوره لعقود.
ولم يكن تشخيص التيارات السياسية التي كانت تتصارع بعد 2003 لدى مفكر تنويري مثل شياع غائماً، فقد كان يقول بوضوح “لا يمكن بناء المستقبل بأفكار معاد تصنيعها من منتجات الماضي. وللأسف النسبة الأكبر من قوانا السياسية ما زالت مشدودة للماضي، وغير قادرة على إدراك أن المستقبل، بالنسبة لنا أو لسوانا من الشعوب، أهم من الماضي”.
وتحت ضغط هذا الواقع وفي ظل هذه المعطيات، امتد شياع ببصره لمستقبل عراقي محفوف بالمخاطر، ولكنه ظل حتى يومه الأخير مؤمناً بأنه يمكن أن يتحقق ويكون مضيئاً، ولكن بمجهود غير قليل لاكتشاف مدى اتساع أرضية المشتركات في المصالح والآمال، وبقدرة عالية على التفهم والتسامح، وعقل مرن يمكن أن يستوعب الآخر ويكتسب ثقته.
وكان من نتاج صلات شياع الحيوية وتفاعله اليومي الخلّاق مع المثقفين بمختلف اشتغالاتهم وتوجهاتهم الفكرية، أن أعطت أولى ثمارها بعقد مؤتمر المثقفين العراقيين الأول الذي نظمته وزارة الثقافة ببغداد عام 2005، وكان مستشارها شياع هو من خطط لذلك المؤتمر الناجح ونفذ مفرداته بدقة عالية مع فريق من المثقفين الفاعلين، ابتداءً من وضع البرنامج المتكامل لفعاليات للمؤتمر، وتحديد أهدافه والسعي لتأمين مخرجات مهمة يسفر عنها، مروراً بتوفير أجواء مريحة للمدعوين، وليس انتهاءً بتوزيع المشاركين بين لجان فرعية متعددة بحسب الاختصاصات. ولم ينسَ أن يوقّع على كل الدعوات، وحرص على أن يسلمها بيده قدر استطاعته لضمان حضور فاعل لأكبر عدد ممكن من المدعوين. ولعل الكثيرين يتفقون على أن المؤتمر كان من أنجح ما أقامته الوزارة التي فقدت فيما بعد كل دور لها. وقد لمست ذلك عن كثب؛ إذ كنت أحد المشاركين الرئيسيين السبعة في إعداد ورقة اجتماعات لجنة المخطوطات والمكتبات المنبثقة عن المؤتمر مع المرحوم د.صباح نوري المرزوك ود.سعيد عبد الهادي ود.حيدر سعيد ود.خيال الجواهري وآخرين، وكانت أمام اللجنة تحديات ما جرى من تدمير غير مسبوق للمكتبات ومراكز حفظ المخطوطات، فكانت ورقة اللجنة بمستوى هذا التحدي، وتضمنت توصيات أُخذ بالكثير منها بإشراف شياع نفسه، مثلما فعل متابعاً توصيات أوراق لجان عدة أخرى.
وحين عدت إلى نفسي من وقع المفاجأة، أخذت أجول ببصري مرة أخرى متطلعاً للمنزل البسيط ذي الطابق الواحد الذي كان يقيم فيه مستشار وزارة الثقافة كامل شياع منفرداً ويخدم نفسه بنفسه، في وقت كان معظم أفراد الطبقة السياسية يتفننون في الاستيلاء على قصور أقطاب النظام السابق، بلا دفع أي مستحقات للدولة.. وانتهبت لصديقي الموسوي المأخوذ بذكرياته الشخصية مع صديق عمره، وبادرته، وقد نسيت حتى مهمتي في البحث عن مكتب جديد، مقترحاً عليه الحفاظ على المكان كما هو، والتخطيط لتحويله إلى متحف كما تفعل الأمم الحية مع رجالاتها. فهزّ الرجل موافقاً.. وأحسست بأنه إنما جاء بي إلى هنا بوصف المكان متحفاً لشخصية عراقية فريدة..
واليوم بعد مضي سنوات على هذا المشهد المؤثر، غادر خلالها الصديق الموسوي البلاد في مهمة دبلوماسية، لا أعرف ما حلّ بمسكن شياع الأخير، وليت المخلصين لذكرى الراحل الكبير يسعون في جمع أوراقه وكتاباته وكل ما كان يستخدمه، والعمل بدعم من الوزارة التي سخّر لها شياع كل وقته مستنفراً كل جهده، على تحويل ذلك المسكن إلى متحف ترتب فيه كل متعلقاته وصوره، كي نحفظ ذكرى ذلك المفكر التنويري الشهيد.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة