على الرغم من التحول الهائل الذي شهدته أحوال العراقيين بعد زوال “جمهورية الخوف” وشبكة معتقلاتها العلنية منها أو السرية، إذ أعاد لهم ذلك التحول من التوليتارية الى الحرية، لا الحقوق التي سلبت منهم وحسب، بل شرعت أمامهم أبواب للحرية والتواصل مع بعضهم البعض الآخر والعالم المحيط بهم، بشكل لم يتخيلوه في أفضل أحلامهم وأمانيهم. لكن وبعد مرور أكثر من خمسة عشر عاما على ذلك المنعطف التاريخي، نجد أنفسنا وقد انزلقنا الى حال وأحوال لا نحسد عليها، وعندما نحاول تلمس علل ذلك الفشل والإحباط، وهي من دون شك لها جذور وامتدادات عديدة ومختلفة، نجد ان المستويات المتدنية للوعي، والمهيمنة على قطاعات واسعة من سكان هذا الوطن المنكوب، هي من تمد هذا المشهد الغرائبي بكل ما يحتاجه كي يبقى ويدوم. ضحالة الوعي هذه يمكن التعرف عليها لا عند الشرائح التي لم تحظى بمستوى تعليمي أولي وحسب، بل نجدها عند غير القليل ممن حصل على تعليم أكاديمي، حيث لا تختلف رؤيتهم لتحديات الحياة وما يحيط بهم من أوضاع وأحداث، عمن لم يحظى بفرصة التعليم اصلاً. انحطاط الوعي هذا يمكن التعرف عليه فيما يعتصمون به من تصورات وإجابات جاهزة يغرفونها من الاحتياطيات الهائلة التي توفرها لهم “نظرية المؤامرة” حيث يجدون أنفسهم من دون خلق الله، هدفاً لدسائس ومؤامرات الشياطين من شتى الأصناف والوظائف والأحجام، لذلك يصعب العثور على من يتواضع منهم ليقر بضعف معرفته لتعقيدات حالة أو حدث ما، فالإجابة لديهم موجودة وجاهزة، يرمونك بها من دون وجع من عقل أو ضمير، كما انهم غير مسؤولين عما يتبع ذلك من عواقب وتطورات وتداعيات، غالباً ما تكون متنافرة تماماً وما أفاضت به قريحتهم الفذة..!
هذا الخلل البنيوي (ضحالة الوعي) تمكن من التمدد والبقاء كل هذا الزمن من حياة ما يفترض انها “مرحلة للعدالة الانتقالية والتحول صوب الديمقراطية” بفعل تفاهة وضيق أفق الطبقة السياسية التي تلقفت مقاليد عراق ما بعد “التغيير”. كيانات وجماعات وقبائل سياسية وعقائدية وضعت نصب عينيها مهمة الاستثمار في ذلك الإرث من التفسخ والانحطاط الذي خلفته وراءها أربعة عقود من الدكتاتورية المطلقة والحروب. في الوقت الذي تتناقل وسائل الإعلام سيول من الأخبار عن المؤتمرات العلمية والثقافية، والمهرجانات الفنية الكبرى في دول الخليج، عاد العراق بهمة قوارض المنعطفات التاريخية، الى أجواء داحس والغبراء ومناخات “الحملة الإيمانية” التي قادها المخلوق الذي انتشل مذعوراً من جحره الأخير، فلا مسارح ولا صالات حديثة لعرض الأفلام، ولا مراكز ثقافية وفنية في العاصمة بغداد وبقية المحافظات والمدن العراقية، أما مصير وزارة الثقافة فالقاصي والداني يعلم ما حل بها من إهانة وتدمير مبرمج، في الوقت الذي يعرف العالم كله ان العراق هو وطن ثقافي قبل كل شيء. في العراق “الجديد” هناك نشاطات من نوع آخر؛ فهناك مؤتمرات وكونفرنسات للعشائر والقبائل، يتبرك بافتتاحها قادة الدولة وحيتان المشهد الراهن، وغير ذلك من طفح الفزعات والهرولات التي سحقت تحت أقدامها موازنات وفرص ووقت يصعب تعويضه بيسر. ضحالة الوعي وانتشار الأفكار الخرافية والظلامية وبضائع الشعوذة والدجل، هي من تقف خلف ديمومة الركود والتعفن الحالية، واستمرار مسلسل الخيبات والإخفاقات في شتى مجالات الحياة المادية والمعنوية.
جمال جصاني
أزمة وعي
التعليقات مغلقة