شكيب كاظم
ظهر في حياتنا الثقافية، من تخصص بلون من الوان الكتابة، او بشخصية ثقافية او ادبية، بشكل يقترب من التماهي فاذا ما ذكر الاول، طرأ على الذهن الشخص المدروس، مثال ذلك الكاتب التونسي ابو القاسم محمد كرو، الذي اوقف جهده الكتابي والبحثي على الشاعر التونسي ابو القاسم الشابي، وكذلك الدكتور محمد عمارة، الذي تخصص بفكر المعتزلة وحركة الاعتزال المنادية بأهمية العقل ازاء النص والنقل واصدر عديد الكتب في هذا المجال كما اوقف عامر العقاد كل جهده للاعتناء باثار عمه- كما اظن- الكاتب الباحث العملاق عباس محمود العقاد، كما اهتم مصطفى علي رحمه الله، باثار شاعر العراق معروف بن عبد الغني الرصافي، فأصدر في الاربعينات كتابين عنه، كما اهتم بتحقيق ونشر ديوانه وتولت وزارة الاعلام العراقية نشره في السبعينات بخمسة اجزاء كما اخلص جميل جبر جهده على الاعتناء باثار الاديبة الشفيفة، مي زيادة التي تآمر عليها الاقربون، وشككوا بقواها العقلية ليدخلوها مستشفى العصفورية للامراض العقلية ولتذهب روحها الى بارئها تشكو ظلم الانسان المتجبر كما اهتم جميل جبر كذلك برسائل جبران واثاره، وفي العراق، يكاد الباحث يعقوب افرام منصور، يجعل جهده البحثي مقصورا على الاديب اللبناني ابن قرية بشري، جبران خليل جبران المولود في هذه القرية ليلة السادس من كانون الاول عام 1883، والمتوفى في مستشسفى القديس فنسنت بمدينة نيويورك في 10/ نيسان/ 1931. اذ اصدر اكثر من كتاب عن جبران الاول: جبران خليل جبران الصادر عام 1985، والثاني (جبران بين التجني والانصاف) الصادرة طبعته الاولى عام 2006 عن دار عصام حداد بمنطقة جبيل بلبنان.
اقول: لقد اهتم الاستاذ يعقوب افرام منصور بأدب جبران وحياته، فضلا على كتابات ثرة وانيقة قرأناها في المجلات والصحف العربية في مجالات ثقافية مختلفة، وكنت اتابع منذ منتصف الستينات من القرن العشرين مقالاته ودراساته الجميلة في مجلة (الاديب) البيروتية ومازلت محتفظا باعداد كثيرة منها التي ظل البير اديب مواظبا على اصدارها على مدى اكثر من اربعة عقود، وحتى وفاته خريف عام 1984 فضلا على كتاباته في جريدتي (القادسية) و (العراق) ومازلت احتفظ في ارشيفي الورقي بالعديد من كتاباته الى جانب كتابات: الشيخ جلال الحنفي. مهدي شاكر العبيدي. واستاذي ابراهيم الوائلي. حارث طه الراوي. عبد المجيد الشاوي. نعمة رحيم كريم العزاوي. حميد المطبعي. عبد الرزاق عبد الواحد. وذكرياته في (القادسية). مدني صالح. كامل مصطفى الشيبي. علي جواد الطاهر وعبد الحميد الرشودي. وعبد الحميد العلوجي. رفعت عبد الرزاق محمد وغيرهم. وخاصة كتاباته في صفحة (النافذة الفكرية) التي اراها ارصن صفحة معرفية وثقافية وفكرية صدرت في الصحافة العراقية، تولى الاشراف عليها واصدارها خلال الثمانينات واوائل التسعينات، طيب الذكر دمث الاخلاق الاستاذ احمد شبيب- رحمه الله- حتى منعه عن اصدارها ضعف في العين.
لقد امتاز الاديب الكاتب يعقوب افرام منصور، بأسلوب جميل في الكتابة، ولغة رشقية انيقة، تحلق بك في اجواء جميلة، وتنقلك من هذا الواقع الحياتي المؤلم، انه يكتب برومانسية حالمة، تجعلك تجد في الحياة بعض ما تستحق ان يعيش من اجلها الانسان واضعين في الحسبان قساوة الظروف، وانهيار القيم النبيلة وتصدعها، اثر الخيبات الحياتية والانتكاسات التي مني بها المجتمع العراقي، ان لغة انيقة رومانسية، جاءت نتيجة قراءات معمقة في كتب الادب ومصادره، عربية وغربية فضلا على روح رهيفة شفيفة حالمة.
إن محبة الاستاذ يعقوب افرام منصور، لادب جبران ونتاجه المعرفي، قد جعله يجد في جبران ايقونة، يتوجه اليها بالاحترام والتقدير، لذا رأيناه يذب عنه عاديات الزمن والكتابة، مدافعا، ولقد دخل- بسبب هذا الاحترام والحب لجبران- في مساجلات ومناقشات مع من يذهب الى رأي مخالف لرأيه فلقد وقف طويلا عند كتاب الاديب المتصوف الناسك ميخائيل نعيمة المولود في قرية بسكنتا عام 1889 والمتوفى يوم الاثنين 28/ من شباط/ 1988 والذي اطلق عليه صديقه الروائي اللبناني توفيق يوسف عواد، اسم (ناسك الشخروب).الموسوم بـ (جبران خليل جبران. حياته. موته. ادبه. فنه) ولدي الطبعة الرابعة الصادرة عن دار صادر ودار بيروت عام 1960، وارى هذا الكتاب من اروع ماكتب ناسك الشخروب الزاهد ميخائيل نعيمة، عن حياة صديقه وزميله في الرابطة القلمية التي اسسها في المهجر الشمالي عدد من ادباء لبنان منهم: ايليا ابو ماضي. ندره حداد. نسيب عريضة. عبد المسيح حداد. رشيد ايوب. وديع باحوط. الياس عطا الله. وليم كاتسفليس. خازن الرابطة القلمية، لكنه ينعى عليه كتابته هذه عادا ذلك انتقاصا من شأن جبران وبتولته وبراءته الجسدية. وخاصة الفصلين (خيالات بشري) و (خيالات بوسطن) اذ يحسب ان نعيمة في هذين الفصلين، قد جانب حقائق الحياة والتاريخ، وانه وضع اشياء من عندياته، وارى ان ذلك لايقدح في الحقيقة شيئا فنعيمة اطلق العنان لخياله وهو الاديب الموهوب، لينسج من عندياته، احداث السنوات الاولى من حياة جبران، في ظل الاب الذي يجد الحياة: لفافة تبغ وفنجان قهوة، وكأس شراب ليلا، حتى تضطر الام كاملة جبران التي كانت زوجا لرجل اخر مات عنها سراعا وخلفت منه ولدا اسمياه بطرس تضطر الام كاملة تحت قسوة الحياة وقسوة هذا الاب العابث الى مغادرة لبنان عام 1895 نحو الولايات المتحدة الامريكية بوسطن تحديدا، مع ابنتيها مريانا وسلطانة كما يفصل لنا نعيمة في الفصل الثاني (خيالات بوسطن) بدايات تعرف جبران على الحياة هناك، وتفتح جسده مع المرأة الامريكية الثرية ماري هاسكل الذي اهداها اكثر من كتاب من كتبه التي تحيا حياة قاسية جافة مع زوجها الثري المنهمك بأعماله، تجارة الجلود، فتجد بعض السلوى في جسد جبران، فيقيم الاستاذ يعقوب الدنيا دفاعا عن بتولية جبران وطهره الجسدي، عادا ذلك اساءة من نعيمة لصديقه الحميم جبران الذي اطلق لخياله العنان، وارى ان ذلك من طبائع الحياة والاشياء، فليس في الدنيا ملاك طاهر، فابن الانسان ضعيف امام رغائب الحياة خاصة ايام الشباب الا من اوتي حظا عظيما من الرهبنة والتصوف والتنسك وقليل ماهم.
الاستاذ ميخائيل نعيمة، يوضح رأيه ازاء ماذكره عن صديقه جبران والذي أثار ضجة واسعة في الاوساط الثقافية وقتذاك ، وذلك في الجزء الثالث من كتابه (سبعون) الذي اطلقه نعيمة عام 1959 لبلوغه السبعين عاما من عمره الذي هو الاخر لم يعجب الاستاذ يعقوب الذي جعل من جبران ايقونة او روح ملاك، فالاستاذ نعيمة يقول في فصل عنوانه (جبران خليل جبران) من الكتاب الذي اشرنا اليه انفا يقول، عندما قر رأيي على وضع كتاب عن جبران لم اشأ ان انهج فيه النهج المبتذل في كتابه السيرة. فما انا بالمؤرخ او البحاثة يجمع شتيت الاخبار والصور ثم يعرضها عليك مسلسلة في الزمان ويردك في اخر الكتاب، او على هوامشه الى مصادرها ولكنني رجل عاشر جبران خمسة عشر عاما فخبزه وعجنه، وعرف اتجاهاته الفكرية والفنية. وخبر طباعة ونزواته، وتغلغل حتى في صميم روحه. وماكان ذلك بالمستطاع لولا تقارب عجيب بين تفكيري وتفكيره في شؤون الحياة والموت، وبين ذوقه وذوقي في ما يتعلق بالادب ورسالته. ولولا ذلك التقارب في الفكر والذوق والروح لما اقدمت على وضع كتاب عنه لأصوره فيه كما عرفته تماما. فكتابي صورة حية له لا سرد جاف لبعض الاحداث في حياته». تراجع ص94 من كتاب (سبعون) المرحلة الثالثة الذي يؤرخ فيه نعيمة لحياته من عام 1932- 1959 الصادر عن مؤسسة نوفل للطباعة والنشر- بيروت بطبعته الرابعة عام 1973 .
لكن كل هذه التوضيحات لاتشفع للاستاذ ميخائيل نعيمة، فهو يريد جبران على مقاساته من الطهر والتبتل، غير ناس ان هناك على الجانب الاخر من عاب على جبران طهره الجسدي عادا ذلك احباطا جنسيا عاناه جبران، وليس فيه ما يمكن ان يرضي المرأة جسديا، كما ذكر ذلك يوسف الحويك في كتاب (ذكرياتي مع جبران)، فضلا على ما جاء في كتاب (اضواء جديدة على جبران) الذي حرره شاعر قصيدة النثر توفيق صايغ، لابل انه سيرا على هذه المنهج في الذب والدفاع عن جبران، يذكر لنا في كتابه (جبران بين التجني والانصاف) انه لمح الاستاذ جميل جبر، الذي جاء الى بغداد في اواسط الثمانينات لمناسبة مهرجان المربد لمحه في فندق (ميليا- المنصور) برفقة بعض الادباء العراقيين، فلم اشأ ان اصافحه واحييه بسبب النعوت التي اطلقها على جبران في كتابه عنه، مما يدل على (جبنه) وعدم استقلاله في الرأي، وربما خشيته من اغضاب ميخائيل نعيمة.. تراجع ص146 من كتابه انف الذكر- وارى ان هذا غير مقبول خاصة في مجال الكتابة والبحث، ان نحاول مصادرة رأي من نختلف معه، فضلا على ان نحمل في نفسنا موجدة ضده، فلا نحييه ولا نصافحه، وهو ضيفنا وقادم، الينا من دياره البعيدة فاذا كان هذا حاله من الدكتور جميل جبر فاراه غير راض عني، وانا الذي ناقشت احدى دراساته المنشورة في جريدة (العراق) الموسومة بـ (جبران بين التجني والانصاف) المنشورة في صفحة (النافذة الفكرية) يوم الاربعاء 24/ 4/ 1985، بمقالتي المعنونة بـ (جبران منشئا رومانسيا وليس سياسيا) المنشورة- هي الاخرى- بصفحة النافذة الفكرية) بجريدة (العراق) يوم الاربعاء15/ 5/ 1985، وقد اعاد الاستاذ يعقوب نشر مقالته هذه في كتابه الذي حمل عنوان المقالة. وقد وقفت عند مبالغات جبران لا بل اكاذيبه، التي كان يبوح بها في رسائله لماري هاسكل التي رعته وحدبت عليه، فتلك مجتمعات- غالبا- لاتكذب لذلك فانهم- لعدم طروء الكذب على اذهانهم- يصدقون اكاذيبنا، لينطبق عليهم ماجاء في الماثور: لست بالخب ولا الخب يغلبني، اي انهم يصدقون اكاذيبنا لا عن غفلة او بلاهة، بل لانه لايطرؤ على اذهانهم ان يكذب انسان، فماري هاسكل ماكانت لتتصور ان يكذب هذا الرسام الكاتب، فاستغل جبران هذه الصفة ليغرف من بحر الاكاذيب ماشاء له خياله وماشاءت له عقده، لكن المرأة المسكينة كانت تراجع نفسها وقد طفح كيل الكذب. وتناجيها من انه لم يقل لها ذلك سابقا، اي انها بدأت تشك بصحة اقاويله وهذا ما افاض فيه واسهب الراحل الشاعر توفيق صايغ وهو يجوس خلل مخلفات جبران وماري هاسكل وشارولت تلر وميشيلين، ليقدم لنا كتابه الرائع الذي ازال البراقع ووضع الامور في نصابها الصحيح: (اضواء جديدة على جبران) الصادرة طبعته الاولى عام 1966، واراه فقد من الاسواق ويا حبذا لو يتولى احد اعادة نشره .
انها لمناسبة ان اقف اجلالا واحتراما لشخص الاستاذ يعقوب افرام منصور لشخص الاديب الناسك والمتصوف، وان اقف مرة اخرى تقديرا وتبجيلا لهذا القلم الثر الانيق، الذي قدم لنا هذا العطاء الوافر في دروب الثقافة والمعرفة والكتابة واضعا في الحسبان ان لايكون الاختلاف، او بعض الاختلاف في وجهات النظر سببا لانحسار مد المحبة والاحترام والود، واضعا في الحسبان- مرة اخرى- الضعف البشري، وان كل ابن ادم خطاء، وافضل الخطائين التوابون التائبون، وان ليس هناك ملاك مقدس، ايقونة، كما ان ليس هناك على الارض شيطان رجيم، بل انسان بشري، له ماله وعليه ما عليه، وانا اعني بذلك البشر جميعا وجبران منهم حتما..