رجال ووقائع في الميزان

يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 31

حوارات مع جرجيس فتح الله*

س:حول هذه التصريحات التي نوهتم بها . ايمكن اعطاء فكرة عامة عن اتجاهاتها . لا سيما تلك التي تتعلق بالطابع المميز لحكومة الرابع عشر من تموز اعني حول طبيعة الحكم وديمقراطيته . نحن نقرأ كثيرا من اراء متناقضة متنافرة اليوم بصدد تقويم الحكم الذي جاء به نظام قاسم . ومن المفيد جدا ان يقف ابناء جيلنا على رأي صريح لهذا الذي أسميته برائد الديمقراطية الحقيقي.
وكان ما ذكرته لا يكفي ؟ اظنك تريد تقويما للجادرجي عن ديمقراطية نظام قاسم ؟ مما قاله عن حكومة الرابع عشر من تموز ان (قاسما) كان مسؤولا بالذات عن انتقاء اعضاء حكومته , وعليه غرمها ورفض عن تفكير سليم مجاراة الوصف العام الذي اطلق على تلك الحكومة في وقتها وفيما بعد – بأنه مظهر ديمقراطي, اي انها حكومة ائتلاف تمثلت في التجمعات والاحزاب والكتل السياسية في البلاد كافة (عدا الحزب الشيوعي) . قال الجادرجي ان هذا النعت ليس صحيحا مطلقا لان اعضاء الحكومة عينوا تعيينا . فكانت مجموعة تضم قبل كل شيء كل العناصر السياسية المعادية للنظام السابق . غير متجانسة ولا تملك برنامجا ثابتا متفقا عليه .
وعن النظام ككل لم يرحب الجادرجي به دون تحفظ وارتياب فهو نظام عسكري على كل حال وقد نال منه كفايته . ومن كل ما استنتجت انه عارض في منح ثقة كبيرة بقاسم يوم 14 تموز بدليل جوابه عن سؤال وقد انتزع مننه انتزاعا على ما اذكر : فقال: “انه رجل مخلص ديمقراطي النظرة “. وهو قول غامض بالمفهوم السياسي . كما نقل لي مصدر قريب منه انه لم يذعن او يسمح (لمحمد حديد وهديب الحاج حمود ) من قادة حزبه بمباشرة منصبيها الوزاريين الا بعد نقاش حام في اجتماع له بأعضاء الحزب المقربين .
س: نوهتم فيما سبق بأن الجادرجي ادان سياسة القمع التي لجأ اليها عبد الكريم قاسم ازاء مطالبة الكرد بحقوقهم القومية , لا سيما بشنه الحرب على الكرد في ايلول 1961. هل كان اسهامه الايجابي في القضية الكردية قاصرا على هذا؟
كلا فهناك مواقف له . كان الجادرجي منهما بالقضية الكوردية كثيرا . وربما سبق اهتمامه اهتمام الاخرين . واني لاستذكر موقفا يعرفه عنه بعض المسنين امثالي من اعضاء الحزب الديمقراطي الكردستاني – بعد بضعة ايام من قيام ثورة تموز تألف وفد حزبي –شعبي كردي لتهنئة (قاسم) وفي اثناء المقابلة تكلم احد الاعضاء واظنه الاستاذ (ابراهيم احمد) حول الحقوق السياسية الكردية مطالبا بشكل عام منح المنطقة الكردية درجة من الادارة الذاتية . الا ان اجابة قاسم غير المباشرة كانت تتضمن الرفض البات . فبادر بعض رجال الوفد بالاتصال بالجادرجي مستنجدا ومستنصحا فكان جوابه : ان هذا الوجه في الحقوق من شأنه ان يسوى بالدستور الدائم للجمهورية وليس بالدستور الموقت وليس هناك دليل ابلغ من هذا على ان القضية الكوردية كانت تحتل جانبا ايجابيا من ضميره وفي تلك الايام كان بعض القانونيين يعكفون على صياغة مواد الدستور المؤقت , الذي صدر بعد المقابلة ببضعة ايام .
هناك حكاية في غاية من الطرافة . يستخلص منها ان مسألة الحقوق السياسية الكردية في النظام الجمهوري كانت موضوع بحث في مجلس الجادرجي , وقد شاعت في وقتها ورويت . وبطلها هو المرحوم المقاول (رشيد عارف) وهو من الوطنيين الكرد المعروفين الكثيري البذل في سبيلها . وقد عرفنا به ظرفا ونباعة تحن اصحابه وكانت له مكانته عند البارزاني الكبير . كما كانت له منزلة خاصة عند الجادرجي وهو دائم التردد الى مجلسه , يفتقده الجادرجي ان تخلف عنه في ذات يوم طرحت مسألة الحكم الذاتي لكوردستان . لا ادري متى كان ذلك افي العهد الملكي ام العهد الجمهوري ؟ ونوقشت مسألة الحدود التي سيمتد اليها الحكم الذاتي , كيف سيتم رسمها ومن سيقوم بتحديدها . وطرحت اسماء شتى كوسطاء او محكمين . ورسا القول على (رشيد عارف) وطلب منه تعيين محكم . واشرأبت الاعناق وارهفت الاذان لسما ما يقول .
قال رشيد : الجمل العربي !! نطلقه على هواه دون قائد . وحيثما توقف فهذه حدودنا (مشيرا الى ان الجمل لا يستخدم في المناطق الجبلية ).
وضحك القوم وعلق الجادرجي قائلا:
“كنت تظنك ستختارني بدلا عن الجمل فقد أكون اكثر أنصافا لكم منه”

س: كانت هناك تيارات متناقضة في الحزب الوطني الديمقراطي ترسل اشارات مختلفة عن اتجاهاته وسياساته . فمثلا كان هذا الحزب برئاسة الجادرجي قد عقد حلقات مع حزب الاستقلال وهو حزب قومي لا يؤمن بضمانة حقوق الكرد في الوطن العراقي .
تلاحظ ان اتحدث عن الجادرجي بالاصل وليس عن الحزب الذي رئسه . واظنك تشير الى محاولة الحزبين المعطلين منذ العام 1954 للاندماج وتأسيس حزب واحد بأسم “حزب المؤتمر الوطني “في العام 1956, وكان اكبر المتحمسين له والداعين اليه الاستاذ حسين جميل . وكان من مواد برنامجه فيما اذكر اقامة اتحاد عربي فدرالي . وقد خلا من اي بحث للقضية الكردية لم تنجح المحاولة ورفض طلب الاجازة في حينه . كانت تحصل اتجاهات فجائية كثيرة في سياسات حزب الجادرجي ليست من وحيه او صنعه وهو بالتالي حزب ديمقراطي النظام يتخذ قراراته وفق الاصول الديمقراطية . اريد ان اذكر بهذه المناسبة اننا نحن المثقفين المهتمين بالشؤن العامة كنا لوقت طويل نعد الجادرجي رئيس للحكومة المثالي على رأس عراق متجدد ديمقراطي . صحيح ان الحزب اكتسحته تيارات الهموم العربية والاحلاف العسكرية في الحرب الباردة فضلا عن التكتلات السياسية العالمية , وقد خسر كثيرا من شعبيته عندما تسلطت عليه فكرتان توأمان ما بين العامين 1954 و 1958 فكرة القومية العربية , وفكرة نهجه الديمقراطي الذي يدعو له عن طريق الوعي الاجتماعي . وهذان التياران المتناقضان كانا مسؤولين عن الضعف الذي انتابه حتى انتهاء اجله . كان الجادرجي في سبيل الوصول الى نظام حكم ديمقراطي صحيح يؤمن بحرية الاعتقاد وحرية التعبير للمواطن العراقي مستعدا للتعاون مرحليا مع اي تنظيم او حزب او تكتل يومن بهذا ويعمل له . ومع انه كان في احيان كثيرة يولي السياسة الخارجية للبلاد اهتماما قد يبدو ازيد من اهتمامه بالشؤون الداخلية فانما يقوم بذلك توفيقا لتشدد تيار معارض وعلي بهذ المناسبة وعلى سبيل المقارنة لا غير , ان اشير مثلا الى المذكرة التي قدمتها الى عبد الكريم قاسم (جبهة الاتحاد الوطني) التي لم يبق فيها العام 1959 غير ثلاثة احزاب هي الحزب الوطني الديمقراطي والحزب الديمقراطي الكردستاني والحزب الشيوعي العراقي. وهي اعتراف رسمي من الجادرجي بشرعية التنظيم الحزبي الكردستاني . واذكر بالمناسبة اني سمعته وانا بزيارة اخيرة له في منزله خلال تلك الفترة تبرمه الشديد من صيغة تلك المذكرة واقتراحه بأن تكون اكثر جفافا واقل مجاملة للدكتاتور .

س: هل حصل بعلمكم لقاء شخصي بين السيد البارزاني والجادرجي ؟
لا اظن في مدى علمي . وتعلم اني كنت اعيش بعيدا عن مواطن الاحداث واللقاءات في العاصمة . وما يتيسر لي هو ما تضعه الصدف في طريقي اثناء تواجدي القصير المتقطع هنا. فلا اذكر ان حصل شيء من هذا الا اني سمعت للبارزاني رأيا في الجادرجي وقد ورد ذكره عرضا وفي وقت متأخر , وصفه بأنه انسان نظيف وان في وقفته ضد قاسم رجولة . لعل غيري يستطيع ان يلقي ضوءا على هذه الزاوية وهي في نظري من الاهمية بمكان . واصدقك القول اني وجدت من هذه الملاحظة العابرة للبارزاني زاحدا من الدلائل الكثيرة على اهتمام الزعيم الكردي بمتابعة مواقف السياسيين العراقيين بدقة.

س: وفي رأيكم وعلى ضوء هذه المواقف كم يستاهل الجادرجي من تكريم؟
من ناحية موقفه او جهوده في القضية الكوردية , ينضوي الجادرجي في قائمة اولئك الذين نوهت بأسماء بعضهم في حديثي السالف وهي قائمة طويلة قد لا تنتهي . الا ان احياء اسمه بعمل تكريمي بوصفه رائد الديمقراطية في العراق امر مستحسن في نظريث . وتلك بالدرجة الاولى خدمة لانصار الديمقراطية في العراق عموما . وخدمة للمسار الديمقراطي الذي يسعى اقليم كردستان الى انتهاجه .

*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة