الميكانيزمات النفسية للإعلام والثورات العربية

(2 ـ 2)
محمد بسيوني عبد الحليم

الميكانيزمات النفسية للإعلام:
يقول ارثر اسا بيرجر تعرض جهازنا الحسى لوابل مستمر من الصور السريعة الحركة والموسيقى والمؤثرات الصوتية يؤدي في نهاية المطاف الى ان تصبح قدرتنا على اتخاذ قرارات عقلانية إزاء أي شيء أمراً صعباً استدعاء هذا في سياق ما بعد الثورات العربية يقدم مدخلا جوهرياً لفهم الميكانيزمات النفسية التي استخدمتها وسائل الإعلام منذ اندلاع الثورات العربية وكانت لها تداعيات على التفاعلات المجتمعة الحادثة منذ ذاك الحين تبلورت في ثلاثة ميكانيزمات مركزية.

آثار الخوف:
بقدر ما تعبر الثورات عن حالة من الرومانسية السياسية بقدر ما تستصحب معها عدداً من الأزمات النفسية المرتهنة بوتيرة التغيرات المتصارعة وثورة التطلعات التي قد تتقلص بفعل الصراعات المتولدة عن الثورات وهو ما يفضي في نهاية المطاف الى تنامى القلق والخوف والإحباط لدى قطاعات واسعة من المجتمع ولا يمكن استبعاد حالة الثورات العربية (سواء في لحظة اندلاعها او في المراحل الانتقالية) من هذا التأطير فالثورات لم تتمكن حتى الوقت الراهن من التأسيس لنموذج مثالي يمكن التعويل عليه (وهو امر ينطبق على جميع الدول التي شهدت ثورات بما فيها تونس والتي وان كانت اكثر استقراراً من غيرها الا انها ما تزال تعاني من إشكاليات حقيقية) وقد اهل هذا الإخفاق مجتمعات المنطقة للتعرض لمرحلة جديدة من الإحباط والشعور بالقلق والخوف والاغتراب وخاصة بين الأجيال التي بادرت بالثورات.
جزء من هذه الأزمات النفسية كان وثيق الصلة بالمفردات التي استخدمها الخطاب الإعلامي الغالب بالمنطقة منذ اندلاع الثورات والتي كانت تستند بنحو رئيسي الى إثارة الخوف والقلق كأداة يمكن من خلالها التأثير في نفسيه متلقى الرسالة الإعلامية والامر المثير للانتباه هنا ان فكرة الخوف ثم توظيفها من جميع القوى المتنافسة ووسائل إعلامها فوسائل الإعلام المحسوبة على الأنظمة الحاكمة كانت تستدعى آليه الخوف في التأثير على الجمهور وفصله عن الحركة الثورية وذلك من خلال ثنائية النظام او الفوضى على أساس ان هذه الثورات ستدفع الى الفوضى وانعدام الأمن والصراعات الحادة ما وسائل الإعلام المحسوبة على القوى الثورية فقد كانت هي الأخرى توظف آليه الخوف لتبرير ما تقوم به حتى لو كانت إجراءات راديكالية تنطوي على قتل وتدمير اذ ان تلك الأعمال ناتجة عن الخوف من المؤامرات التي يشترك فيها اتباع النظام القديم او الفلول تعبيراً آخر.
لقد وجدت اليه إثارة الخوف جاذبية لدى الكثير من وسائل الإعلام وذلك لعدة عوامل اهمها الاستقطاب الحاد بين التيارين الديني والمدني وتخوف كل تيار من الآخر وهو التخوف الذي ظهر في الخطاب الإعلامي الذي تبناه كل منهما فالتيار الديني من جهة اعتاد على ان يستعمل- عبر وسائل إعلامه- حجة الخوف على الشريعة والهوية المهددة من جانب العلمانيين من اجل حشد الناس ناهيك عن طبيعة الخطاب الديني الخاص بغالبية قيادات هذا التيار والذي يميل الى الاستخدام المكثف لمفردات الخوف لاحداث اكبر تأثيراً ممكن في نفسيه المتلقى ومن جهة أخرى استخدام التيار المدني وسائل إعلامه لتخويف الناس من احتمالات الرجوع الى الوراء وتنامى النزعات المتطرفة حالما سيطر التيار الديني على السلطة.
ثمة عامل آخر ارتبط بتزايد حدة الصراعات بالمنطقة واستصحابها لحالة من الغموض وتضارب المعلومات وهو ما يدفع الافراد الى المزيد من الاعتمادية على وسائل اعلام متنقاة تتفق مع توجهاتهم المصبح الأداة المتاحة لازالة الغموض القائم وفي اثناء هذا الاعتماد يحدث المحتوى الإعلامي تأثيرات في وجدان المتلقى تتجلى من خلال زيادة الخوف والقلق وغيرهما من الجوانب النفيسة التي قد تكون اكثر حضورا في مراحل التغيرات الراديكالية للمجتمعات ولكي يكون لهذا المحتوى الإعلامي المودود المنشود لابد ان يحظى المرسل (او المسؤول عن صياغة المحتوى الإعلامي) بالثقة والمصداقية لدى المتلقى.

الصورة الذهنية المشوهة:
صحيح ان هذه الآليه تكون حاضرة باستمرار في وسائل الإعلام الا ان اهميتها تتزايد في سياق الثورات وما تتضمنه من تنافس شديد على المكانة والنفوذ السياسيين حيث تتشكل مرجعية فكرية لصياغة الخطاب الإعلامي تقوم على مسلمات متمحورة حول ثنائية الاناء والآخر كآليه للتصنيف والفرز المجتمعي ثم تتطور فيما بعد هذه الثنائية لتستدعى منظومة قيمية سياسية واخلاقية تعلى الذات وتحدث اسقاطات على الآخر المختلف عبر التكريس لصورة ذهنية سلبية بخصوصه تترسخ تدريجيا- وفي بعض الاحيان تكون بنحو لا وعى- في مخيلة متلقى الرسالة الإعلامية وتصبح مناط حكمه وتصوراته ومواقفة.
وتحقق آليه الصورة الذهنية اهدفها في البيئة الصراعية من خلال صياغة افكار نمطية وصور ذهنية عن الآخرين تتسم بالسلبية والتعميم والاختزال والربط التلقائي- غالبا ما يكون مزيفا- بين الآخرين والجرائم والازمات السياسية وافتراض في مرتبة انسانية ومجتمعية ادنى يمكن ان تهدد التركيبات المجتمعة القائمة ومثل هذه الافكار النمطية تحدث أثاراً نفسيه في متلقى الرسالة الإعلامية تتجلى في تبرير العدوان وتنامى مساحات الكراهية والتعصب وهو ما حدث كلما كان التغير الاجتماعي سريعاً اذ ان كثيراً ما يصاحب هذه السرعة اختلال ملموس في النظم والمؤسسات الاجتماعية والقيم التي يؤمن بها الفرد كما يصاحب هذه السرعة نوع من عدم الاتزان والقلق عند الافراد فيلجؤون الى التعصب كوسيلة لتغطية هذا القلق واختلال القيم.
لم تكن آليه الصور الذهنية غائبة عن الإعلام في مرحلة ما بعد الثورات العربية فقد تكلفت بالتكريس لحالة التعصب والكراهية المتبادلة تورط فيها الكثيرون وصار الفضاء الإعلامي ساحة للتجاذب السياسي والشرعنة للعنف ضد الآخر بل وانتاج روايات طائفية ترتكن الى سرديات اخلاقية عن الفرد الجيد والآخر السيئ وتصطحب معها مصطلحات من قبيل (علماني، كافر، ارهابي، متطرف،عميل، خائن، وغيرها) ولا يمكن اغفال ان انتاج هذه الروايات اعتمد على اليات متنوعة لعل اهمها المبالغة وتضخيم الأحداث والتوظيف البراجماتي المتجزأ للصورة والفيديوهات علاوة على الشائعات وما تحمله من موضوعات سلبية وفضائح والانتقاض من شان بعض القوى.

السخرية السياسية:
شغلت هذه الآلية حيزاً كبيرًا في الخطاب الإعلامي السائد منذ الثورات العربية فقد بدأت المجتمعات العربية تتنبه الأهمية هذه الآلية حينما طورت الحركات الاحتجاجية مفردات للدعابة والسخرية من الأنظمة الحاكمة ولاسيما في الحالة المصرية التي شهدت خلال عقود إرهاصات لتحول السخرية الى وسيلة الهجاء في المجتمع المصري حال تواجد بيئة سلطوية وأصبحت أيضاً وسيلة للتشكيك في شرعية الحاكم والحكومة لدى قطاع كبير من الناس اذ ان التعرض المستمر للقمع والخوف من السلطة يدفع الافراد بنحو تدريجي الى استدعاء مفردات الدعابة والسخرية والتي حينها تصبح مساحة للهروب الفكري والعاطفي من الواقع المثير للقلق والمحتدم بالأزمات.
بعد رحيل مبارك وغيره من الأنظمة الحاكمة بعد الثورات العربية باتت آليه السخرية السياسية شائعة في الإعلام (سواء التقليدي او الافتراضي) وبدا ان هذه الآلية تحقق عددا من الاهداف النفسية الهامة اولها انها باتت وسيلة لتخفيف الاجهاد والتوتر المتصاعد حدته في المراحل السخرية السياسية تعويضا عن هذا الشعور بالعجز عبر اضفاء سمات ودلالات سلبية (بمفردات السخرية) على السياسات التي تبنتها نخب الحكم بعد الثورات ويرتبط الهدف الثاني بامكانية الوقت ذاته وسيلة للهجوم ولكن باختلاف كونها تؤدي الى احداث نتائج اقل وطأة مقارنة بالوسائل الأخرى الاكثر جرأة في التعبير والتي قد يترتب عليها في اغلب الاحيان ردود فعل اكثر عنفاً.
ثمة هدف ثالث وأخير اكثر اهمية من الناحية النفسية وهو ذلك المتصل بثنائية التفوق ونزع القداسة (سواء الدينية او السياسية) عن الآخر حيث ان نمط السخرية السياسية الذي ظهر في الإعلام بعد الثورات وفي خضم الاستقطاعات السياسية كان يستهدف بنحو اساسي الاستهزاء والتهكم على أشخاص يعتقد انهم اقل كفاءة من الناحية السياسية والفكرية وهو ما ينطوي على رسالة ضمنية بالتفوق ناهيك عن ان السخرية تدفع بنحو تدريجي الى تفويض الأنماط الراسخة في المخيلة تجاه أشخاص او جماعات وتنظيمات محددة ونزع القداسة عنهم والتقليل من شأنهم ويكفى هذا استدعاء نموذج برنامج البرنامج لباسم يوسف وصفحات مواقع التواصل الاجتماعي التي خصصت جزءاً كبيراً من مضمونها للسخرية من القوى السياسية (وعلى وجه الخصوص جماعة الاخوان المسلمين) التي تولت مقاليد السلطة بعد الثورات.

رؤية ختامية:
تكشف تجربة الثورات العربية عن مساحات مركزية للتأثير الإعلامي اذ ان الميكانيزمات النفسية التي استخدمتها الوسائل الإعلامية المختلفة في أثناء تفاعلها مع الواقع كان لها مردودها على هذا الواقع فاعلية وكافة فمن خلال الميكانيزمات والمداخل النفسية- التي تناولتها المقالة- كان الإعلام يدفع الأفراد الى التغيير صور ذهنية نمطية والاستعاضة عنها بصور جديدة وهو ما كان يعني ان الفرد عليه ان يتحرك (سواء بنحو سلمي او حتى عنيف) لترجمة ما تعرض له من تأثيرات نفسية على ارض الواقع وإكمال مراحل التأثير المعرفي والوجداني لوسائل الإعلام.
الأمر المثير للانتباه والاسى في الوقت ذاته ان الكثير من وسائل الإعلام- مع الاعتراف بموجود بعض الاستثناءات- كانت تتبنى بنحو او باخر نموذج اعلام الأزمات والمشكلات الذي يدفع الأوضاع الى المزيد من التأزم او على وفق تعبير الناقدة الثقافية سانديا نامبيار ان وسائل الإعلام تخلق وحوشا جديدة لنا كل يوم وذلك بدلا من التحول الى عنصر داعم للتحديث في المجتمعات العربية والتكريس لما يعرف باتصال التنمية حيث تكون وسائل الإعلام بمنزلة منتدى لنشر الديمقراطية وقيم التحديث والتنمية والتعايش السياسي والمجتمعي.

* باحث في العلوم السياسية

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة