مروان المعشّر
حالة جديدة بدأت بالتشكل في أنحاء عديدة من العالم العربي، وهي بروز تيارات واحزاب تنادي بالدولة المدنية وتركز على البرامجية في العمل بعيداً عن الأحزاب الآيديولوجية التقليدية، الدينية منها والمدنية.
في الأردن برز حزب جديد ينادي بالدولة المدنية وسيادة القانون وتوازن السلطات والمواطنة المتساوية والبرامج الاقتصادية والاجتماعية التي تحاكي حاجات المواطنين. وقد تمكن هذا الحزب الناشئ من استقطاب جزء لا يستهان به من الجيل الجديد لأنه يركز على الأفكار وليس الأشخاص، وذلك بالرغم من المعارضة التي يلقاها من بعض أجزاء السلطة التنفيذية وممن يعتقدون أن المدنية ضد الدين بالرغم من أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان أول من أرسى قواعد الدولة المدنية في المدينة المنورة. وقد أطلق هذا الحزب على نفسه اسم «التحالف المدني» باعتبار أنه يضم العديد من التيارات والأحزاب التي يغلب عليها الطابع الديمقراطي الاجتماعي.
في لبنان برز أيضاً، ومن دون تنسيق، تحالف مدني ينوي المنافسة على الانتخابات القادمة بعيداً عن الاصطفافات الطائفية وأحزاب الزعامة الواحدة التي ميزت العمل السياسي في البلاد. ويضم هذا التحالف الذي أطلق على نفسه اسم «وطني» ثلاث عشرة مجموعة أغلبها من الحراك المدني الدائر هناك من مثل «طلعت ريحتكن» وأفراد من «بيروت مدينتي» و«بدنا نحاسب» وغيرها تنادي بدولة مدنية ديمقراطية تماماً كما يدعو لذلك التحالف المدني في الاْردن.
في العراق، تم تأسيس التحالف المدني الديمقراطي لخوض انتخابات عام 2014، وذلك من قبل تيارات وأحزاب متعددة نجحت في الحصول على ثلاثة مقاعد في البرلمان العراقي من محافظة بغداد. ويدعو الحزب إلى دولة مدنية ديمقراطية بعيداً عن المحاصصات الطائفية المعمول بها في العراق.
ليست هذه هي الأمثلة الوحيدة، ولكنها تؤشر جميعاً إلى حالة سياسية جديدة تتشكل في أجزاء عدة من العالم العربي، وهي تطلع الجيل الجديد لكسر حاجز احتكار المشهد السياسي في المنطقة من القوتين الرئيستين الحاليتين: إما قوى تحكم بشكل سلطوي ولا تريد المشاركة في السلطة، أو أحزاب دينية لم تنجح أيضاً في إقناع المواطنين بإيمانها بالتعددية بكافة وجوهها وقدرتها على حل التحديات الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة.
بطبيعة الحال، لن يكون من السهل كسر هذا الاحتكار في وقت قريب، ولكن المؤشرات الأولية تشير إلى أن ما يحصل ليس حالة طارئة أو عرضية. هناك اقتناع لدى قطاع واسع من الجيل الجديد بأن بعض القوى التقليدية في العالم العربي فشلت في إحداث التنمية المستدامة، وأن الوضع لم يعد يحتمل الخمول والقبول بما قبل به آباء وأمهات هذا الجيل.
لا يزال هناك لغط كثير حول مفهوم الدولة المدنية، بعضه نابع من عدم الفهم الصحيح لأسس هذه الدولة، والبعض الآخر محاولة مقصودة لتصوير من ينادي بالدولة المدنية وكأنه يحاول طمس هوية الأمة، لذلك من المفيد التمعن في بعض القضايا التي يتمحور حولها هذا النقاش.
أولاً: نقيض الدولة المدنية ليست الدولة الدينية، بل الدولة السلطوية، التي تستأثر بالسلطة والفكر وتتغول على السلطات الأخرى وتطبق القانون بشكل انتقائي. الدولة المدنية ليست عدوة الدين، بل عدوة السلطوية. لم ينادِ المسلمون بدولة دينية منذ نزول الدعوة، والدولة الدينية الوحيدة في الإسلام جاءت مع بدعة ولاية الفقيه في إيران التي لا تعترف بها الأغلبية الساحقة من المسلمين، شيعة وسنة. لا يمكن لدولة مدنية تحترم حرية المعتقد والفكر والدين أن تكون ضد الدين لأن ذلك ينافي أحد أهم أسسها. حرية الاعتقاد مكفولة في الدولة المدنية التي تقف نفس المسافة من كافة الناس. هذا يختلف طبعاً عن غرض البعض فرض تفسيرهم للدين، حسب فهمهم هم له، على كافة الناس بالإكراه، فالدولة المدنية في هذه الحالة لا تسمح بذلك وإلا تحولت لدولة سلطوية.
ثانياً: لا يجوز الحديث عن الدولة المدنية من دون إقرانها بالدولة الديمقراطية أيضاً، فالصفتان متلازمتان. الدولة المدنية من دون الديمقراطية تعني الاستئثار بالسلطة من قبل فصيل واحد، والدولة الديمقراطية من دون المدنية تعني الاستئثار بالسلطة من قبل فصيل آخر. الدولة المدنية الديمقراطية تعني سيادة القانون واحترام الحريات وتداول السلطة والاحتفاء بالتعددية الإثنية والدينية والفكرية والجندرية للمجتمع، وهي التي من المفترض أن تعمل من أجلها هذه الأحزاب الناشئة.
ثالثاً: لا تعارض على الإطلاق بين الدولة المدنية والإسلام. لو كان هناك تعارض لما استطاع التونسيون والتونسيات الاتفاق على عقد اجتماعي جديد من خلال دستور يضمن حقوق كافة مكونات المجتمع، الإسلامية والعلمانية والليبرالية والمحافظة، إدراكاً منهم أن لا مجال لإلغاء أحد، وأن التعددية تحت مظلة الدستور هي الضمان للانطلاق نحو مستقبل أفضل. ولو كان هناك تعارض بين الدولة المدنية والإسلام، لما تعايش العلمانيون والإسلاميون في وفاق في دول كالمغرب وماليزيا وإندونيسيا وغيرها.
ما سيكون سر نجاح هذه الحالة المتكونة؟ إن أسباب فشل معظم الأحزاب الناشئة في العالم باتت واضحة، تجمعها صفات مشتركة؛ فهي مرتكزة حول شخص أو قلة، ولا توجد لديها قدرة تنظيمية فاعلة، أو قاعدة شعبية واضحة، أو برامج اقتصادية واجتماعية تستطيع محاكاة حاجات الناس، أو قدرة تمويلية مستدامة. إذن والحالة كذلك، فإن أسباب نجاح هذه الأحزاب الناشئة ستكون العكس تماماً: قدرتها على التركيز على الفكر لا الشخص، والقاعدة الشعبية قبل الانتخابات، والبرامجية قبل الآيديولوجيا، والقدرة التمويلية.
من الأكيد أن القوى التقليدية في العالم العربي ستقاوم هذه الحالة الناشئة. في بيروت اجتمع الأضداد من القوى التقليدية ضد لائحة «بيروت مدينتي» في الانتخابات البلدية الماضية وبرغم شُح الموارد وقصر المدة، استطاعت هذه الحركة حصد عشرات الآلاف من الأصوات. في الاْردن كذلك، وبرغم منع التحالف المدني من إقامة حفل إشهاره في البداية، حضر حفل الإشهار بعد أن سمحت السلطات به أكثر من ألف شخص فاضت بهم القاعة إلى قاعة أخرى خارجية، إضافة إلى ثمانية آلاف آخرين حضروا الحفل على الإنترنت ولمدة ثلاث ساعات متواصلة.
هناك حالة جيدة تتشكل في المنطقة؛ حالة بلغ بها اليأس من قوى تقليدية ما حفزها لتطوير نهج جديد يعتمد المدنية الديمقراطية إطاراً والبرامجية التي تحاول حل التحديات الاقتصادية والاجتماعية أسلوباً. فإن تجنبت هذه الحالة مزالق وأخطاء الأمس وعملت بشكل منهجي جماعي مثابر، فسيكون لها شأن عظيم في تكوين ملامح العالم العربي الجديد.
* ينشر هذا المقال بالإتفاق مع مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي ٢٠١٤
لقراءة النص الأصلي٬ إتبع الرابط التالي: http://carnegieendowment.org/sada