يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 10
حوارات مع جرجيس فتح الله*
عرفت الجادرجي في أوائل السنة الدراسية للعام الثالث وقد قدمني اليه (كامل قزانجي) . ولفت نظره مرة اسلوبي في ترجمة مقال نشر في صوت الاهالي , ومدح لغتي السليمة , اما حظي من عبد الفتاح فقد كان اكثر من هذا وللصدف هنا احكامها . عرفته لماما بتردده على (ذو النون ايوب ). وبلغ مصدر اعجابي بكتابه “مقدمة في الاجتماع” ان خيل لي ان استطيع فرض اوليات من موضوعاته بله قراءات فيه لطلاب الصف المنتهي في مدرسة الاميركان الاهلية التي كنت والاستاذ قزانجي ندرس فيها في العام 1943 . وكان عبد الفتاح مدرسا في المتوسطة الغربية (او الشرقية) الرسمية التي لا تبعد كثيرا عن مدرستي حي (السنك . لا ادري كيف زين لي ان انمي في اذهان مجموعة متنافرة من الطلاب اهتماما بالنظريات الاجتماعية الحديثة . وكثيرا منها يبدو للكبار –والذين أوتوا حظا من العلم – من قبيل المعميات . وكانت دهشة (عبد الفتاح ) ولا شك بالغة عندما طلبت تزويدي بأكثر من أربعين نسخة من هذا الكتاب ووضعت اثمانها امامه.
والذي يعرف الاستاذ لا شك في انه يتفق معي بأن وجهه الصخري المعروف كفل له دائما اخفاء مشاعره الجياشة . وهو بطبيعته نزر الكلام وبدا محتارا وكأنه يريد القول شيئا عن طيش وتهور لهذا ابن العشرين الذي يجرأ ان يجعل من طلابه ما لم يجرء هو نفسه حتى على التفكير بعمل مماثل مع طلابه الا ان المبلغ المدفوع كان كبيرا والعرض غير قابل للرفض . وكنت احمل العشرة والعشرة من النسخ وهو يأتيني بها تباعا الى المدرسة فأنقلها وبهذا الشكل وثقت صلاتنا . ومرت ثلاث سنين قبل ان التقيه ثانية وهو رئيس لحزب الاتحاد الوطني (بالضبط رئيس لجنته السياسية ).
ولم اتعرف الى الاستاذ عزيز خلال سنوات الدراسة . وانما عرفته قبل اشهر قليلة من تأسيس الحزب . وكانت وسيلتي زميل الدراسة الصديق (عبد الرحيم) شقيقه . ونحن نمضي اخر ايام التدريب في دورة الضباط الاحتياط . هناك فقط فاتحتني بنية تأسيس حزب الشعب . وقد انتشر في الجو السياسي نبأ اعتزام الحكومة على بعث الحياة الحزبية اثر خطاب القاه الوصي وبه وعد بذلك . ولأكونن في غاية من السماجة وسوء الذوق ان لم انتهز هذه الفرصة لاقول شيئا عن هذا الانسان النبيل الذي انست بصحبته الدائمة خلال تلك الفترة وراعتني منه دمائه وهدوء ورقة قد لا تعهدها الا نادرا عند ذوي العقيدة الراسخة بأندفاعهم الحماسي في ترويج ارائهم . كان كالبحر الهادئ في هدوئه ولطفه , ولم الحظ قط ان صوته ارتفع او بأن عليه هياج في مثار نقع جدال سياسي كنا نجر اليه في احيان كثيرة . وقد اكبرت فيه بعد ما اتضح لي اتجاهاته العقائدية , ذلك الصبر والاناة اللذين كان يتلقى بهما نقدي الجارح احيانا بما كان يمس عقيدته الماركسية في الصميم . عندما جائني نبأ ميتته الشريفة وانا في معتقل انقلابي الثامن من شباط 1963 لم يدركني العجب فقد كنت مدركا من اي معدن صب هذا الانسان . ان لدي صورة له مع الاستاذ ابراهيم احمد وهما سجينان اخذت لهما في سجن بغداد المركزي ويؤسفني انني خلفتها ورائي في السويد والا كان من دواعي سروري ان اطلعك عليها .
التيارات السياسية أبان حركة مايس
س: بودي لو حدثتنا بشيء عن تلك التيارات السياسية التي سبقت تجربة العام 1946 الحزبية . فقد كان هناك حزبان مجازان اخران خلاف الاحزاب الاخرى , قرأنا كثيرا عنها لكنك عشتها وواكبتها . وهي بالتالي من صلب السؤال .
كان الجميع (وطنيين ؟) اتحدوا في مقارعة الانتداب ثم النفوذ البريطاني بعد الاستقلال المتجسم في نبذ المعاهدة ومهاجمة الحكومات العراقية بسبب تفريطها بكرامة الاستقلال وبمصانعتها النفوذ البريطاني . كانت شعارات ونداءات عامة تستمد قوتها وضعفها من مجريات المشكلات الداخلية والعلاقات الخارجية لهذه الحكومة او تلك و بكل ما تتخللها من انقلابات عسكرية متتابعة استقطبت اخيرا بحركة رشيد عالي المسماة بحركة مايس 1941 . وفيها او على اثرها بدأ الانشطار المبدئي . وظهرت صفة (قومي ) الى جانب صفة (وطني ) . كان من سوء حظ اولئك الذين عرفوا بالقوميين , ظهور النازية والفاشلة على المسرح الدولي وحينئذ بدت المعادلة عند القوميين في غاية البساطة النازية تعادي اليهود . واليهود يزاحمون عرب فلسطين ويريدون : اقامة كيان يهودي او صهيوني في بلاد عربية . والنازية تشن حربا غايتها القضاء التام على الإمبراطورية البريطانية التي تشجع اليهود على الاستيطان وتفرط بحقوق اهل البلاد العرب . وهي مذلة العراقيين بسيطرتها الغاشمة على الحكومات العراقية . ولم يكن لأولئك الذين سميناهم (بالوطنيين) من سلاح او حجة تقوى على هدم هذه المعادلة , المنطقية فهم ايضا يشاركون القوميين في عدائهم للبريطانيين . كانت الموجة النازية العاتية في عراق حركة مايس لا يقف امامها سد . بلغ التحمس اقصاه بالانتصارات الميدانية الخاطفة التي كانت تحققها الجيوش الالمانية . ليس بأمكانك ان تتصور حالة الجنون والهيستيريا التي انتابت سائر طبقات الشعب وشاركها فيها طائفة كبيرة من المثقفين , ولم يكن بعجيب قط ان يستغل الضباط الانقلابيون ورشيد عالي ورهطه من الساسة , ذلك الشعور العام ليركبوا الموجة الكاسحة وبصرف النظر عن الدوافع و اكانت شخصية او بدافع المصلحة العامة اي الحرص على ان يكون العراق الى جانب المنتصر في ذلك الصراع العالمي الدائر . يصعب علي ان اقدم وصفا لتلك الحال , فلا اجد مندوحة او بديلا الا برواية حادثين شهدتهما بعيني .
عافت نفسي ما رأيت في بغداد خلال أسبوعين الاول من شهر مايس فتركتها وعدت الى الموصل . وفيها وجدت الهيستيريا التي سادت بغداد تأخذ هنا شكلا هزليا بالغ الطرافة : انتشر المتطوعون في كل شارع وزقاق لاصطياد الجواسيس الذين يتصلون بالعدو البريطاني واتفق انه طحان البرغل (شامبو ) الذي لم يكن يملك غير سروال داخلي كتاني واحد , اشار على زوجته فغسلته له ونشرته على عمود في سطح الخان الذي يسكن احد غرفه والخان مشرف على شارع نينوى فصارت الريح تعبث به عندما جف فتملأه وتميله يمنة ويسرة فبات يبدو اشبه بتلك القماشة الاسطوانية المجوفة التي تنصب عادة على سارية في المطارات لتعيين اتجاه الريح . واتفق ان لاحظه احد صيادي الجواسيس .. رأيت طحاننا هذا بالصدفة وهو مغلول اليدين بين اربعة من الشرطة مع مفوض يحمل الاداة الجرمية (سرواله ) التي كان يعطي بها الاشارات الى الطائرات البريطانية .
بل وانكى من هذا : جار لي معلم في مدرسة ابتدائية يقاربني سنا او يزيد قليلا. انسان دمث طيب المعشر الا اذا انقلب وحشا كاسرا حين يذكر احدهم (هتلر) امامه بأستخفاف . بلغ به الهوس القومي والرهان على خلاص العراق من الهيمنة البريطانية انه كان يعقد الاجتماعات الليلية مع لفيف من شركائه في العقيدة ليصغوا جميعا بخشوع ورهبة الى عبارات المذيع (يونس بحري) التحريضية من راديو برلين , وكثيرا ما كنت اغشى مجلسه قليلا للترفيه والتسلية محاذرا جرح مشاعره واتفق –في منتصف شهر مايس – ان حطت في مطار الموصل طائرات المانية , حملت خلا الطيارين عددا من الخبراء والميكانيكيين . ولا ادري كيف توصل معلمنا هذا اليهم وكم بذل من الجهد ليحصل منهم على علبة من اللحم المحفوظ . جاء بها وكأنه عثر على كنز ودعا اصحابه كافة الى حفلة فتح العلبة والمشاركة في تناول ما تحويه . كنت بين المدعوين وتم فتح العلبة بوقار واحترام وراح الكاهن الاكبر يدور عليهم واحدا بعد واحد يناولهم ملء ملعقة . اعتذرت عن المشاركة طبعا . لاني كنت اكره لحم الخنزير , ولا ادري اكان صاحبي يعرف ذلك , وهو وجماعته مسلمون – ام انه جهل الحقيقة ؟ اما انا فلم اقل له .
وانحسر التيار بتصفية حركة مايس وسوق الاعداد الكبيرة من النشطين فيها الى المعتقلات التي فتحت خصيصا لهم . ثم افرغت تدريجيا بعد القضاء على النازية وانتصار الحلفاء . وخرج القوميون وهم في نهاية الضعف وانتشرت الافكار التي اتخذت لها الاسم العام (التقدمية) وهو اسم صيغ في معامل الاتحاد السوفياتي خصيصا ليتخفى به الماركسيون وليطلق ايضا على الديمقراطيين ومن يتوسم الماركسيون والشيوعيون فيهم رفاق طريق . وبقي القوميون فترة قصيرة يفتقرون الى أيديولوجية وهدف , لتأتي المسألة الفلسطينية جرعة مقوية وركيزة صلدة يمكن بناء قضية مركزية عليها الى جانب رفع شعار الاصلاح والتقيد بأحكام الدستور ولم تكن المعاهدة البريطانية وقتذاك تحتل جانبا من الضمير القومي , بحكم الظروف .
*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012